ذات عشية توقفت سيارة أجرة عجلى على جسر المدينة، لكي تعبر احدى العربات التي تجرها الحمير، فنظر "لماذا الوردة" من داخلها باتجاه الجنوب، واجال بصره ببطء ناحية المقهى الملاصق للجسر، ثم شد السائق من الخلف من ياقته بقوة وهو يصيح :"أنزلني هنا الآن"، غير ملتفت العلامات الدهشة التي أظهرها باقي الركاب. أما السائق المسكين، فقد التفت مفزوعا باتجاه "المكلوب"- كما سماه في قرارة نفسه - محتجا بأن هذه المدينة ليست المكان الذي يريده . وبدون أي تعاطف، شد "لماذا الوردة" السائق من ياقته من جديد ، بقوة أكبر، وهو يصيح بالسائق:
- أنزلني هنا !
وبدون أن يعبأ "لماذا الوردة" بالسائق الغاضب الذي كان يقفل باب سيارته المفتوح وهو يستعيذ بالله، قام بخلع نعليه، و ترك نظره يسرح في القريب والبعيد. ثم تأمل بقايا المياه المنسابة في الوادي، وهو متكيء على حافة الجسر، محاولا أن ينقش في عينيه تفاصيل المشهد كما لو كان يشعر بانه سيختفي بعد حين إلى الأبد. ثم غمره الشعور بغته، بأن شيئا سحريا كان يولد في المكان ويموت بلا انقطاع.
و بينما كانت عصابات من الغيوم الحليبية الصغيرة تتناثر مودعة بعضها، انساب المساء الى الليل فهبط الظلام وحاصره خلسة، دون أن يشعر بمرور الوقت. وقتها كانت هبات الرياح الشمالية الفاترة المنعشة تتلاعب به، فانتشرت لبرهة سكينة مسكرة عبر جسده، وهو يتنشق ، رافعا رأسه كذئب، نغمة الياسمين الخفيفة التي خالطت رائحة الهواء الرطبة. وتلاشت ببطء الهالة الكئيبة التي كانت تلفه أخذة معها، لبرهة، الصوت الممض الذي كان يدوي في رأسه بأن" القرود هم الجحيم". ثم لاحظ "لماذا الوردة"، ازدياد حركة الشباب والرجال، وتجمع الكثيرون منهم تحت اشجار التين الهندي العملاقة بداخل المقهى المطل على الوادي. ثم جال ببصره ببطء في أرجاء المقهى، متجاهلا القرود التي كانت تتقافز وهي وترمقه بعيون زرقاء لامعة ساخرة.
و قتها أشاعت زقزقة العصافير في المكان جوا مسالما، و كان ثمة شبابا وكبارا مهندمون يستمتعون بوقتهم على مقاعد المقهى. و حرك هذا في أعماق "لماذا الوردة" ذكرى أصدقاء له كان فيما مضى يسامرهم، لهم ذقون حليقة وأرواح رقيقة عند حواف عيونهم. ورفع رأسه وهو يعاني من انفجار مشاعره، فلفت انتباهه الصناديق الخشبية الصغيرة المعلقة على أشجار المقهى، التي انساب منها صوت "أم كلثوم":" رجعوني عنيك لأيامي اللي راحو … "
عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 20 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق