بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 سبتمبر 2015

ألبياصة الحمراء... تاريخ حزن غير مواسى!

      "عندما أدرت رأسي في أنحاء الساحة المسماة "البياصة الحمراء" وقعت عيني على الأستاذ "رامي" والدكتور "علي". كان الأثنان يقومان بقياس الساحة، وهو ما أثار فضول الكبار في السن، أما الشباب الذين كانوا يعبرون الساحة مسرعين من وقت لآخر فكانت ردة فعلهم محايدة وغير مبالية. وعلى عادته لم يعطي الاستاذ أي اهتمام لمن كانوا يتابعونه من العابرين وأصحاب المحلات. وكان يتبع الأثنين فتى، يبدوا أنه قد استطاع أن يحوز على أهتمام الدكتور . و دهشت جدا عندما أخرج الاستاذ من حقيبة معلقة على كتفه بوصلة ذات اطار معدني، و أخذ يحدد موقع الساحة وهو الأمر الذي لم اجد له تفسيرا. (لصديقيك اهتمامات غريبة) قال شيخ الطريقة، بعد أن هز رأسه متعجبا مشيرا الى رفيقي الذين كان يقومان بوظيفة المساحين. أنا لم أعرف بماذا أجيب، و اكتفيت بهزذراعي وابتسامة متعجبة، ثم انتظرت قليلا حتى وقعت أنظار الدكتور علي علينا فاشرت اليه بكفي. وعندما حاول أن ياتي باتجاهنا ، أمسك به الأستاذ رامي من كتفه، وأشار الى الورقة التي كان يرسم فيها شيئا، بينما مال اليافع معهما بانتباه على الورقة، قبل أن ياخذه الدكتور ليتحدث معه على حدة. بعدها انطلق الفتى عدوا بسرواله الكاكي القصير باتجاه القوس الشمالي الذي يصل الساحة بسوق الظلام فكاد أن يصطدم بالدلال الضخم، الذي برز فجاءة معلنا بصوته الجهوري عن بيع عقد كان يتلالا بلونه الذهبي في يده، ثم أختفي الصغير في عتمة اللون الباهت. في تلك الأثناء كان"شيخ الطريقة"قد انتهى من شرب قدح المشروب الحار الذي في يده، و ودعني بعد أن ترك يدي التي احتفظ بها لفترة في يده باصرار دبق، وسار باتجاه "سوق الخرازة" الذي يتصل بنهاية سوق الخضار. ولهذا وجدت نفسي حرا لكي القي نظرة متفحصة على الساحة.

        كان الضوء عذبا عندما توجهت في خط مستقيم باتجاه النافورة في وسط الساحة لألقي نظرة عليها من المنتصف، ومن حسن حظي أن الساحة لم تكن تعاني وقتها من ذلك الصخب المميز للساحات الرئيسية. ولاحظت للتو ان معمار الساحة يفصح عن خليط من أثر فاتحين مختلفين، أو لنقل جيرانا مباشرين. ومرت أمامي بدوية عجوز ممسكة بقربتين، من تلك التي يباع فيهما الحليب الحامض، وكانت بشكل حذائها الجلدي الملون الذي يصل الى أعلى من كاحليها، و ربطة راسها السوداء وباقي ثيابها الملونة تعلن بوضوح بأنها قد نبتت في أرض أخرى. العجوز لاحظت أني اتفحصها، فتوقف وأشارت الى ان كنت راغبا في شراء ما تبيع فهززت يدي معتذرا. وبينما كنت اراقب قامتها المنحنية من الخلف لا حظت ذلك الغريب الممسك بكراسة في يده وهو يدور ببطء حول النافورة التي لم تكن تعمل. وعندما أقترب مني في المرة الثانية وقف أمامي وقال (صك بلا رصيد) وهو يهز اصبعه تجاهي ، وعندما مددت وجهي قليلا باتجاهه معربا عن عدم فهمي، أعاد (حسنا، عندما تغرس اصبعك في الوجود فلايمكن أن تشم غير رائحة الأسئلة… ماذا يعني هذا؟ ) . قال هذا وهو يتشمم اصبعه بحركة متوترة، ثم أردف و قد لمعت عيناه بفرح قصير كما لو أنه اعتقد بأني فهمت مغزى كلامه ( ومع كل سؤال يأتي سؤال آخر، لقد قلت لك أنه صك بلا رصيد) فوافقته بهزة من راسي وابتسامة مجاملة، و شكرته في قرارة نفسى لانه ذكرني بأني هنا من أجل حل مجموعة من الاسئلة في المقام الأول. كان الرجل غريبا في معطفه الأشهب الطويل المرفوع الياقتين، وفي نظراته الوقحة الحادة التي تتفرس في الأشياء بلااستئذان. وأتذكر انه سألني أن أعطيه سيجارة، فاعتذرت منه بأني لا ادخن. حينها سحب قلم الرصاص الذي كان يغفو وراء اذنه وفتح كراسته ليسجل شيئا وهو يبتعد ماطا شفته السفلي الى الأمام ، باديا حركته الدورانية المعتادة براس مهتز.

         في تلك الأثناء انتبه الاستاذ رامي الى وجودي فترك رفيقه وحث الخطى بجسمه البدين باتجاهي وهو يقول (ساحة الملكة ايلينا) فاتحا ذراعيه حتى أني ظننت أنه سيحضنني كمبعوث فوق العادة للملكة الفاتنة . حينها كان بودي أن أنتهز أية فرصة لكي أطرح عليه اسئلتي المهمة، ولكنه كعادته لم يترك لي مجالا، حيث أشار للتو بيده الفارغة الى الجزء العلوي من المبني المقابل الذي كانت تطل من فوقه سحابات ناعسة قائلا (الأثر ايطالي على الأرجح ولكن التأثير العام اسباني أندلسي)، ثم نظر حوله باتجاه الغريب وسألني بصوت منخفض (الم يخبرك شيئاعن الوردة؟) فأجبت بالنفي، وأضفت ( بل عن صك بلا رصيد ) فابتسم الاستاذ بخبث وهو يقول (ممتاز! ... هذا يحسب له. لقد عرف المسكين أينا أكثر رومانسية).

       وقبل أن أفتح فمي، أشار الأستاذ الى البلاط الأحمر وهو يطرق عليه بقدمه سائلا( ألا يذكرك هذا بشيء؟ … هيا قل ..، أنا أفكر في تاريخ حزن غير مواسى، لم يتم تجاوزه). ولوهلة خطر ببالي الحزن عندما تحن لشيء فقدته، وأردت أن أجيب (غرناطة الوطن البعيد) ولكن قبل أن أفتح فمي جاءت الاجابة من خلفي (بلاط الشهداء) بصوت الدكتور الممسك بحقيبة الاستاذ. ( أنت تفكر في لون الدم. لم يكن هذا الذي في بالي ، ولكن هذه فكرة رائعة هي الأخرى) قال الاستاذ "رامي" وهو يقهقه، ثم غمز باتجاهي وهو يهز سببابتة المعكوفة مشيرا الى الدور الثاني من المبنى. (يمكنني أن أتخيل هذا: هناك يقف الحاكم العسكري الأيطالي ،المنفي هنا في هذه الأرض الجنوبية، وهو الذي كان في قرارة نفسه يحلم بحكم مدينة مليئة بالكنائس الباذخة ونساء بيض يرفلن في الدانتيلا والحرير المنقوش ، مدينة كان سيفخر بان يحكي عنها لأحفاده. انه يجد نفسه في ذلك اليوم مطلا من فوق الاقواس التي كتب عليها "يحيا الملك الامبراطور" وهو يتأمل الساحة بأرضيتها الحمراء التي تعج بأحفاد الأندلسيين الذين هجروا الى هنا، رغم انوفهم، لكي ينشئوا في هذه الأرض ما أصبح بعد قرون مملكته وسجنه الصغير، النقطة الرمادية التي ستختتم بها سيرة حياته الحافلة. ويمكن ياعزيزي أن أتصور الحاكم وهو يلقي بأنظاره الى هذه الساحة متخيلا كنوع من التنفيس عن وجع يأكل روحه "شارل مارتل" المكني بالمطرقة وهو يحطم رأس قائد الأندلسيين بين الآف الجثث الغارقة في مخمل سائل أحمر اللون على مد البصر، وكلاهما يرمق الآخر بنظرة متجلدة حاقدة، تفجر الجليد قطعا) . ودون أن يعبأ الاستاذ بالجالسين على مقاعد المقهي القريب الذين كان بعضهم يراقبنا بفضول، قام بتمثيل الموقف، هازا يده الى المضمومة القبضة الى الأعلى والأسفل ومطلق صوتا متحمسا (تاك ، تاك، تاك) ، حتى أن الرجل كان يجلس قبالتنا مسترقا النظر الينا وهو يتظاهر بقراءة صحيفته، وقف فجاءة وأخذ ينظر بقلق في الاتجاه ألذي كان يشير اليه الاستاذ ثم عاد ليجلس على كرسيه متأففا، و ملتفتا حوله بحثا عمن يشاركه شعوره. بينما تابع "رامي" حكايته. ( لعل الحاكم كان يشعر في قرارة نفسه، بأن الآف الجثث هناك في "بلاط الشهداء" قرب "بواتييه" لو تكدست في هذه الساحة فوق بعضها ككومة لكان بامكانها أن تكون نصبا عملاقا على هزيمة الاندلسيين الآبدية، ولكنه ولحسرته كان يلقي هنا بانظاره الى الساحة من تحته فلا يجد الا أحفادهم وقد نبتوا هنا مثل العشبة العنيدة، فيشعر ووقتها والغيظ يتأكله، بأن التاريخ لم ينتهي بعد).

        في ذلك الوقت انتهى الغريب ذو العينين الحمراوين ، الموشى عليهما اعترافا بالعزلة، من طوافه، وجلس بقربنا على حافة النافورة مراقبا ما يجري عن كثب، وهو يهز جسمه الأعلى الى الأمام والخلف. (لقد كانت القبلة الأخيرة على باب أوربا، وقتها كان العالم على حافة مستقبل آخر) علق الدكتور"على" بصوت خفيض وهو يحك رأسه ، وقد صارت عينيه الجاحضتين صغيرتين للغاية، فاجاب رامي (نعم) ثم استطرد وفي عينيه نظرة غائمة يصعب تفسيرها، وهو الذي كان يعرف كيف يكون لاذعا عندما يريد: ( اذا ما كنت أستطيع أن أرى أبعد من أنفي، فيمكنني القول بأن تلك "القبلة" كادت أن تتسبب في اختفاء أوربا، كما نعرفها اليوم، الى الأبد) ثم أضاف مشيرا الى الرجال في المقهى ( أنظر! ،  هولاء أحفاد من ماتوا في ذلك اليوم، الذين ساروا مدججين بشبابهم باتجاه ضوء الفجر وعيونهم مسحورة بالكلمات. كان يعوزهم حدس النساء وما من أحد أخبرهم أن القبلة الأخيرة ستكون مؤلمة جدا -أبعد من حدود كل الوجع- قبل أن يلتهمهم الصمت!) ."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  14 سبتمبر 2015
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق