بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

اتبعني ان لم تكن طيبا!

        في تلك الليلة لم يتوقف"لماذا الوردة" عن التقلب في فراشه. وبلا مقدمات أحس بباب الزاوية يفتح على مصراعيه، وضجة تقترب من البعيد فقام مفزوعا يتملكه خوف أبله، ليرى ما ألأمر . الظلمة كانت تحاصره بعد أن ابتلعت كل شيء، فلم يستطع الرؤية. و بغتة انبعث نور باهر من فتحة الباب، فلمعت أطرافه بهالة من النور.

       صمت! ...

 اختفت الضجة فجاءة كما لو أن هناك سائلا دبقا جمد الفراغ في حالة السكون.

       (عما تبحث؟) .. تناهى اليه صوت انبعث مثل ذكرى . كان صوتا جافا تسلل من فتحة الباب كصدى، و اختلط بضربات قلبه المتسارعة. ركز "لماذا الوردة" انتباهه على الفتحة و اقترب منها بحذر مادا ذراعه اليمنى أمامه و ساترا عينيه من هالة النور بالأخرى ، وقد اجتاحه فضول حار.

عند الباب، أختفى الصوت مرة واحدة … ، غاب!...

        شاهد من خلال بياض المشهد ، الذي بدا كضباب كثيف يتداعى، كائنا يسير كالقرد على حبل ممدود بين الزاوية و برج الكنيسة، حيث كانت سيدة تستحثه بيديها على الصعود. وبغته رمقه ذو العينين الزرقاوين بنظرة ساخرة، و قهقه وهو يصيح به (كل شيء حلم يذهب ويعود، لينير دروب الحمقى)، ثم توقف في مكانه بعد أن تمكن من الوقوف على الحبل كبشري، بمعاناة، وصاح بلهجة غير مريحة ولكنها واثقة:

      (اتبعني ان لم تكن طيبا).

       حينها ثارت الريح كزوبعة فحاول المخلوق موازنة نفسه على الحبل المهتز. بعد برهة طأطأ المعني رأسه ثم القى بنفسه فاتحا ذراعيه كنسر منقض وهو ينظر باتجاه "لماذا الوردة" الذي كادت أصابعه أن تنغرس كالأنياب في الباب. اختفت الريح.

       صرخ المتهاوي ( ثمة خطر أمامك . حظا طيبا!)، ثم … انتهى.


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  5  نوفمبر 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الاثنين، 2 نوفمبر 2015

حدث ذات يوم في سوق الظلام ...

       لا أحد يدري على وجه اليقين من أين أتى هذا الرجل، الذي تعود أن يظهر في السوق بعد صلاة المغرب، وبقضي وقته رائحا غاديا بين الدكاكين حتى موعد صلاة العشاء، ملتفتا خلفه بحذر من وقت لآخر كما لو كان يريد التيقن بأن لا أحد يتبعه، و شاغلا وقته بالتحدث مع من يحاورونه من أصحاب المحلات وأولادهم بجمل فخمة متحذلقة و أحيانا غير مترابطة أو ساخرة ملغزة كنوع من تمضية الوقت، وعارضا على بعضهم رسوماته الأخيرة.

        و يدهشني، رغم مرور كل هذه السنوات، أني لازلت أتذكر بدقة مساء ذلك اليوم ، الذي شاهدت فيه "لماذا الوردة" لأول مرة. وقتها كنت جالسا كعادتي أمام دكاننا، مراقبا من يلفتون انتباهي من العابرين، عندما توقف لبرهة قبالتي، وتفحصني بنظرة ساخرة . ثم أدار وجهه باتجاه والدي الذي التفت ناحيته و اقترب مني بدون تردد ، حتى أني أجفلت قليلا، غير أنه لم يعبأ بذلك بل ازداد اقترابا مادا ورقة في يده باتجاهي.

- (جميلة ...آترى انها جميلة ... الوردة)
- (نعم .. انها وردة بديعة حقا) ، أجاب والدي بدلا مني ... ( هل أنت من رسمها؟)
- (أنا رسمتها ، هل أعجبتك؟ .... اذا أعطني عشرة قروش ، أريد أن أشتري تبغا)
- (سأعطيك القروش اذا أخبرتني لمن رسمت هذه الوردة)  قال والدي وقد بدت في عينيه نظرة متهكمة، كمن يمازح طفلا صغيرا.

        كان الغريب عادي الملامح، غير مرتب الملابس، يرتدي سروالا قديما ويرتفع قميصه الغير مكوي من احدى جهتيه مما جعله يبدوا غير متناسقا من ناحيته السفلية، كما كان يلبس نعلا من البلاستيك الرخيص. وبدا الرجل الذي قد استوقفت مروره في وسط السوق، شخصا غير مألوفا لي ولا لأبي ، مما دل على أنه ليس من المدينة أو ضواحيها، وان كانت لهجته ليست مختلفة كثيرا. و أذكر أني كنت قد سمعت مرة أبي يقدر عمره بأواخر العشرينات.

- (أعطني العشرة قروش أولا) قال الغريب.

         وهنا أخرج والدي النقود من جيبه ، ولكن قبل أن يلتقطها الرجل من راحة يده أغلق أبي يده بسرعة.
- (اذا لم تكن تريد ان تخبرني لمن رسمت هذه الوردة ، أخبرني على الأقل من أنت ولمن من العرب؟)
- (أنا لمن ؟ ) ضحك "لماذا الوردة ،  ثم تابع كلامه (لمن؟ ليس لمن ، بل لماذا ؟ ... لكن الوردة بدون لماذا ، لكنها ليست بدون لأن)

- (طيب لماذا ؟) سأل والدي.

- (الوردة بدون لماذا،
تتفتح لانها تتفتح،
و لاتسأل ان كان ثمة من يراها).

        هكذا أجاب لماذا الوردة، ثم انحنى ومد يديه المفتوحتين وذراعيه باتجاه الارض كجناحين. كما لو كان يحيي جمهورا غفيرا من المعجبين المبهورين، حتى أني أخذت أضحك بخجل، من طرافة المشهد، وأنا أحاول أن أخفي ضحكتي بيدي الصغيرتين.

- (ليس ثمة من يراها) صاح مبتهجا، و قد احمرت وجنتاه من السرور. (أليس هذا رائعا؟ بدون الرؤية تكون كل الحواس الأخرى عمياء. و أن لايراها أحد يعني أنها ستموت، لكن موت الوردة على كأبته يبدو فاتنا ومغويا كتفتحها)- (جميل، أنت مثقف أيضا)علق والدي على كلامه بلهجة مازحة.
- (انه هو الذي قالها وليس أنا... حسنا ، لا تعطلني ... أريد تبغا ... هيا ، هيا ... أعطني القـ قـ قـ روووش).

       في تلك اللحظة، انتبهت الى تغير لون عيني الرجل الى الأبيض بالكامل دفعة واحدة ، مما أفزعني ، ثم أخذ يهتز بقوة ، و أصدر صوت تنفس مخنوق، ثم سقط وهو ينتفض، فاسرع اليه والدي وأصحاب المحلات الملاصقة. أما أنا فقد أصابني الذعر فتسللت الى داخل محلنا على عجل، وجلست على ركبتي خلف الفترينة الصغيرة، وبعد أن خف اضطرابي، أخذت أتلصص من بين المعروضات على "لماذا الوردة" الذي كان يتقافز بين أيدي الرجال المحاولين تثبيته على الأرض، وسمعت صراخ جارنا وهو يصيح (أعطوني "مفتاحا كبيرا ، أعطوني "مفتاحا كبيرا)، وعند ذلك لم أعد أرغب في المتابعة ، فأدرت رأسي باتجاه قلب الدكان، و وضعت يدي على اذني وأغمضت عيني.

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  2  نوفمبر 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الخميس، 15 أكتوبر 2015

في الفندق ...

    " استقيظت من نومي مشوش الذهن بريق جاف، وأنا أشعر بثقل في صدري و تذكرت أني كنت أحلم بأبي وهو في السجن. أبي الذي اختفى هكذا ببساطة. كان هذا الحلم يتكرر كثيرا بوضوح وانتهى اليوم باحساسي بالتهاوي نحو خواء عميق أسود، وانا - ولا أعرف كيف يمكنني أن اقولها بشكل أخر -أسبق "نفسي" في الهبوط السريع مطلقا صرخات تقطع النفس. عندما انتهى الكابوس وجدت نفسي مستقيضا كطائر مبتل وذراعي مفتوحتين كما لو أني أريد أن أتمسك بشيء. امتلأ الفراغ بشيء من خلال ما يشبه الضباب المتبدد وخف شعوري بالانقسام، فأبصرت العالم الذي غادرته البارحة بضمير ممزق و غبش يعتري حواف رؤيتي لحجرة الفندق التي يعمها الفوضى. أخذت نفسا عميقا و حمدت الله أني لم اتسبب في ايقاض رفيقي، و وفكرت بأنه لعلي لم أصرخ الا في الحلم. أشعر أن توتر الفترة الأخيرة قد انتزع مني سلامة الفكر، وملأ أحلامي بالسوداوية. التفكير في كل الامور التي تحصل ثقيل للغاية ، فمن ناحية اتضح أن موضوع "صالحة" والفتايات الاخريات أعقد كثيرا مما ضننت، وأخذ ينجب اعداد لا تنتهي من الأحداث المحيرة. وكان هذا لا يكفي لوحده، زاد الطين بلة بموضوع الفتاة على الجسر و ما حدث لها و ما سمعته في "بياصة الطرابلسي" عن "الشيء". أشعر كلما طال مكوثي في هذه المدينة بأني أريد أن انتهي من هذا الموضوع و أضعه خارج دماغي بسرعة. الساعة الآن بعد الخامسة صباحا بقليل - أتثاءب - والأسوأ من ذلك أني لست في تمام صحوي. "

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  15  أكتوبر 2015
____________________________________________


Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

أخذ الظلام كل شيء ...

       " جاءت الخاتمة بشرار خاطف حاد الألوان ...ابتلعه "اللاشيء".

كان له وهو على الأرض، وجه بشرى مألوف، بتصفيفة شعره وبشرته البيضاء وشاربيه الكثين المتناثرين كلهب فضي، وعينيه المفتوحتين بوميض رطب تجاه النهاية المشرعة… الموت!.

سيطر حزن ساحق على"لماذا الوردة" وهو يحاول تذكر صاحب الوجه، الذي كان يعرفه جيدا.

اختفى النور…
غاب!

(سيصل عطشك الى حواف مداه لتدرك حرارة نصله)

سمع صوتا من قبرالظلام يهمس خلف اذنه فدار على نفسه وهو يرتعش، وقد امتلات عيناه بالدموع. شعر بطعم رماد بارد في فمه، و هو يسمع عويلا ثاقبا انتهى كصوت مجنون هادر (الزمن عقاب لا رجاء فيه). ثم امتلأ الفراغ برائحة مقلقة... الدم! ، عندما انهار الصوت فجاءة كنحيب خافت ملأ المكان. كان يسحقه تعب من يحمل اثقال العالم، عندما ساد المظلم .
صمت!

كل شيء حلم أحمق ...
أنت الموجود !!! ...
لا شيء موجود،…
لا صوت … لا ضوء!"


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  23 سبتمبر 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

الهرب ...

        " ... لكن ما أن وقف "لماذا الوردة" على رجليه وتفرس مليا في حشد الرجال الملتفين حوله يواسونه لأمر لم يتبينوه، شعر بذعر شديد، وهو يرمق بعضهم بقلق، وانهمرت قطرات من العرق البارد على وجهه حتى بدا كالواقف تحت المطر، ثم أحمر وجهه وأخذت شفتاه ترتعشان ووهو يحاول أن يقول شيئا يخنقه، كان يبدو كما لو كان سيولد من أحشاءه، لكنه لم يستطع. كان الموقف ينير دلهيزا مظلما في ذاكرته. وكفلم قصير راح يستعيد ببطء تلك الواقعة القديمة،وقلبه يرتجف، محاولا قدر جهده - وقد بهت وجهه بغته - أن يضع حدا لتدفق تلك الصور المحزنة، التي كان يعرف أنها ستسري كدفق حار في داخله فتنهكه. ورفع يده -وجفناه يرتعشان بتوتر- و وضعها على فمه، الذي أخذ خيط من اللعاب الرفيع يسيل من طرفه، ليمنع نفسه من البكاء، قبل ان يسمع أحدهم يصيح (لا اله الا الله)، من بين الجمع الذي خيم عليه الصمت. ثم اصطدمت رشة ماء قوية وكثيفةبوجهه فالتفت مصدوما تجاه الرجل الذي كان يحمل الدلو المتقاطر، وعينيه الذاهلتين ترسلان شعاعا ينم عن حاله، و استدار المسكين نحو الشمال باحثا عن مهرب، قبل أن يستجمع بقايا قوته ليدفع أحدهم بشدة وهو يضغط شفتيه بأقصى ما يستطيع الى الأمام كرأس سهم، كاسرا حلقة العظم اللحم التي تحيط به كقفص دجاج. ثم اندفع بحركات عدوه الغير متناسق باتجاه نهاية الشارع، بينما وقف "المريد" ومجموعة الرجال مندهشين دون أن يحاول أيا منهم ان يلحق به. و لم يلبث "لماذا الوردة" أن اختفى عند عند نهاية الشارع وهو يلهث.

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  16 سبتمبر 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 


الاثنين، 14 سبتمبر 2015

ألبياصة الحمراء... تاريخ حزن غير مواسى!

      "عندما أدرت رأسي في أنحاء الساحة المسماة "البياصة الحمراء" وقعت عيني على الأستاذ "رامي" والدكتور "علي". كان الأثنان يقومان بقياس الساحة، وهو ما أثار فضول الكبار في السن، أما الشباب الذين كانوا يعبرون الساحة مسرعين من وقت لآخر فكانت ردة فعلهم محايدة وغير مبالية. وعلى عادته لم يعطي الاستاذ أي اهتمام لمن كانوا يتابعونه من العابرين وأصحاب المحلات. وكان يتبع الأثنين فتى، يبدوا أنه قد استطاع أن يحوز على أهتمام الدكتور . و دهشت جدا عندما أخرج الاستاذ من حقيبة معلقة على كتفه بوصلة ذات اطار معدني، و أخذ يحدد موقع الساحة وهو الأمر الذي لم اجد له تفسيرا. (لصديقيك اهتمامات غريبة) قال شيخ الطريقة، بعد أن هز رأسه متعجبا مشيرا الى رفيقي الذين كان يقومان بوظيفة المساحين. أنا لم أعرف بماذا أجيب، و اكتفيت بهزذراعي وابتسامة متعجبة، ثم انتظرت قليلا حتى وقعت أنظار الدكتور علي علينا فاشرت اليه بكفي. وعندما حاول أن ياتي باتجاهنا ، أمسك به الأستاذ رامي من كتفه، وأشار الى الورقة التي كان يرسم فيها شيئا، بينما مال اليافع معهما بانتباه على الورقة، قبل أن ياخذه الدكتور ليتحدث معه على حدة. بعدها انطلق الفتى عدوا بسرواله الكاكي القصير باتجاه القوس الشمالي الذي يصل الساحة بسوق الظلام فكاد أن يصطدم بالدلال الضخم، الذي برز فجاءة معلنا بصوته الجهوري عن بيع عقد كان يتلالا بلونه الذهبي في يده، ثم أختفي الصغير في عتمة اللون الباهت. في تلك الأثناء كان"شيخ الطريقة"قد انتهى من شرب قدح المشروب الحار الذي في يده، و ودعني بعد أن ترك يدي التي احتفظ بها لفترة في يده باصرار دبق، وسار باتجاه "سوق الخرازة" الذي يتصل بنهاية سوق الخضار. ولهذا وجدت نفسي حرا لكي القي نظرة متفحصة على الساحة.

        كان الضوء عذبا عندما توجهت في خط مستقيم باتجاه النافورة في وسط الساحة لألقي نظرة عليها من المنتصف، ومن حسن حظي أن الساحة لم تكن تعاني وقتها من ذلك الصخب المميز للساحات الرئيسية. ولاحظت للتو ان معمار الساحة يفصح عن خليط من أثر فاتحين مختلفين، أو لنقل جيرانا مباشرين. ومرت أمامي بدوية عجوز ممسكة بقربتين، من تلك التي يباع فيهما الحليب الحامض، وكانت بشكل حذائها الجلدي الملون الذي يصل الى أعلى من كاحليها، و ربطة راسها السوداء وباقي ثيابها الملونة تعلن بوضوح بأنها قد نبتت في أرض أخرى. العجوز لاحظت أني اتفحصها، فتوقف وأشارت الى ان كنت راغبا في شراء ما تبيع فهززت يدي معتذرا. وبينما كنت اراقب قامتها المنحنية من الخلف لا حظت ذلك الغريب الممسك بكراسة في يده وهو يدور ببطء حول النافورة التي لم تكن تعمل. وعندما أقترب مني في المرة الثانية وقف أمامي وقال (صك بلا رصيد) وهو يهز اصبعه تجاهي ، وعندما مددت وجهي قليلا باتجاهه معربا عن عدم فهمي، أعاد (حسنا، عندما تغرس اصبعك في الوجود فلايمكن أن تشم غير رائحة الأسئلة… ماذا يعني هذا؟ ) . قال هذا وهو يتشمم اصبعه بحركة متوترة، ثم أردف و قد لمعت عيناه بفرح قصير كما لو أنه اعتقد بأني فهمت مغزى كلامه ( ومع كل سؤال يأتي سؤال آخر، لقد قلت لك أنه صك بلا رصيد) فوافقته بهزة من راسي وابتسامة مجاملة، و شكرته في قرارة نفسى لانه ذكرني بأني هنا من أجل حل مجموعة من الاسئلة في المقام الأول. كان الرجل غريبا في معطفه الأشهب الطويل المرفوع الياقتين، وفي نظراته الوقحة الحادة التي تتفرس في الأشياء بلااستئذان. وأتذكر انه سألني أن أعطيه سيجارة، فاعتذرت منه بأني لا ادخن. حينها سحب قلم الرصاص الذي كان يغفو وراء اذنه وفتح كراسته ليسجل شيئا وهو يبتعد ماطا شفته السفلي الى الأمام ، باديا حركته الدورانية المعتادة براس مهتز.

         في تلك الأثناء انتبه الاستاذ رامي الى وجودي فترك رفيقه وحث الخطى بجسمه البدين باتجاهي وهو يقول (ساحة الملكة ايلينا) فاتحا ذراعيه حتى أني ظننت أنه سيحضنني كمبعوث فوق العادة للملكة الفاتنة . حينها كان بودي أن أنتهز أية فرصة لكي أطرح عليه اسئلتي المهمة، ولكنه كعادته لم يترك لي مجالا، حيث أشار للتو بيده الفارغة الى الجزء العلوي من المبني المقابل الذي كانت تطل من فوقه سحابات ناعسة قائلا (الأثر ايطالي على الأرجح ولكن التأثير العام اسباني أندلسي)، ثم نظر حوله باتجاه الغريب وسألني بصوت منخفض (الم يخبرك شيئاعن الوردة؟) فأجبت بالنفي، وأضفت ( بل عن صك بلا رصيد ) فابتسم الاستاذ بخبث وهو يقول (ممتاز! ... هذا يحسب له. لقد عرف المسكين أينا أكثر رومانسية).

       وقبل أن أفتح فمي، أشار الأستاذ الى البلاط الأحمر وهو يطرق عليه بقدمه سائلا( ألا يذكرك هذا بشيء؟ … هيا قل ..، أنا أفكر في تاريخ حزن غير مواسى، لم يتم تجاوزه). ولوهلة خطر ببالي الحزن عندما تحن لشيء فقدته، وأردت أن أجيب (غرناطة الوطن البعيد) ولكن قبل أن أفتح فمي جاءت الاجابة من خلفي (بلاط الشهداء) بصوت الدكتور الممسك بحقيبة الاستاذ. ( أنت تفكر في لون الدم. لم يكن هذا الذي في بالي ، ولكن هذه فكرة رائعة هي الأخرى) قال الاستاذ "رامي" وهو يقهقه، ثم غمز باتجاهي وهو يهز سببابتة المعكوفة مشيرا الى الدور الثاني من المبنى. (يمكنني أن أتخيل هذا: هناك يقف الحاكم العسكري الأيطالي ،المنفي هنا في هذه الأرض الجنوبية، وهو الذي كان في قرارة نفسه يحلم بحكم مدينة مليئة بالكنائس الباذخة ونساء بيض يرفلن في الدانتيلا والحرير المنقوش ، مدينة كان سيفخر بان يحكي عنها لأحفاده. انه يجد نفسه في ذلك اليوم مطلا من فوق الاقواس التي كتب عليها "يحيا الملك الامبراطور" وهو يتأمل الساحة بأرضيتها الحمراء التي تعج بأحفاد الأندلسيين الذين هجروا الى هنا، رغم انوفهم، لكي ينشئوا في هذه الأرض ما أصبح بعد قرون مملكته وسجنه الصغير، النقطة الرمادية التي ستختتم بها سيرة حياته الحافلة. ويمكن ياعزيزي أن أتصور الحاكم وهو يلقي بأنظاره الى هذه الساحة متخيلا كنوع من التنفيس عن وجع يأكل روحه "شارل مارتل" المكني بالمطرقة وهو يحطم رأس قائد الأندلسيين بين الآف الجثث الغارقة في مخمل سائل أحمر اللون على مد البصر، وكلاهما يرمق الآخر بنظرة متجلدة حاقدة، تفجر الجليد قطعا) . ودون أن يعبأ الاستاذ بالجالسين على مقاعد المقهي القريب الذين كان بعضهم يراقبنا بفضول، قام بتمثيل الموقف، هازا يده الى المضمومة القبضة الى الأعلى والأسفل ومطلق صوتا متحمسا (تاك ، تاك، تاك) ، حتى أن الرجل كان يجلس قبالتنا مسترقا النظر الينا وهو يتظاهر بقراءة صحيفته، وقف فجاءة وأخذ ينظر بقلق في الاتجاه ألذي كان يشير اليه الاستاذ ثم عاد ليجلس على كرسيه متأففا، و ملتفتا حوله بحثا عمن يشاركه شعوره. بينما تابع "رامي" حكايته. ( لعل الحاكم كان يشعر في قرارة نفسه، بأن الآف الجثث هناك في "بلاط الشهداء" قرب "بواتييه" لو تكدست في هذه الساحة فوق بعضها ككومة لكان بامكانها أن تكون نصبا عملاقا على هزيمة الاندلسيين الآبدية، ولكنه ولحسرته كان يلقي هنا بانظاره الى الساحة من تحته فلا يجد الا أحفادهم وقد نبتوا هنا مثل العشبة العنيدة، فيشعر ووقتها والغيظ يتأكله، بأن التاريخ لم ينتهي بعد).

        في ذلك الوقت انتهى الغريب ذو العينين الحمراوين ، الموشى عليهما اعترافا بالعزلة، من طوافه، وجلس بقربنا على حافة النافورة مراقبا ما يجري عن كثب، وهو يهز جسمه الأعلى الى الأمام والخلف. (لقد كانت القبلة الأخيرة على باب أوربا، وقتها كان العالم على حافة مستقبل آخر) علق الدكتور"على" بصوت خفيض وهو يحك رأسه ، وقد صارت عينيه الجاحضتين صغيرتين للغاية، فاجاب رامي (نعم) ثم استطرد وفي عينيه نظرة غائمة يصعب تفسيرها، وهو الذي كان يعرف كيف يكون لاذعا عندما يريد: ( اذا ما كنت أستطيع أن أرى أبعد من أنفي، فيمكنني القول بأن تلك "القبلة" كادت أن تتسبب في اختفاء أوربا، كما نعرفها اليوم، الى الأبد) ثم أضاف مشيرا الى الرجال في المقهى ( أنظر! ،  هولاء أحفاد من ماتوا في ذلك اليوم، الذين ساروا مدججين بشبابهم باتجاه ضوء الفجر وعيونهم مسحورة بالكلمات. كان يعوزهم حدس النساء وما من أحد أخبرهم أن القبلة الأخيرة ستكون مؤلمة جدا -أبعد من حدود كل الوجع- قبل أن يلتهمهم الصمت!) ."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  14 سبتمبر 2015
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 


الخميس، 3 سبتمبر 2015

نوابض الغضب...

  " (سيارة جميلة) قال الاستاذ "رامي" محاولا فتح حوار معي، وهو ينزل زجاج السيارة قليلا.

(أنها سيارة أبي) أجبته، وأناأبعد وجهي الى الجهة الأخرى، لاخفي الشعور الذي انتابني في تلك اللحظة.

(اذا فقد حرمناه منها اليوم) تابع الاستاذ حديثه.

(للاسف لم يعد يحتاج اليها) أجبته ثم أضفت (لقد توفى منذ سنة).

مد الدكتور يده، و أدار مفتاح الراديو خانقا صوت المغني بلارحمة.

(لتتنزل عليه الرحمة) قال محاولا مواساتي، ثم مد يده وربت على يدي الموضوعة فوق ذراع تغيير السرعة في السيارة بلطف، ثم استطرد (هل كان مريضا؟).

(هل كان مريضا؟) سأل بنغمة هادئة، فالتفت ببصري الى الجهة البعيدة بحركة تمثيلية بائسة معطيا الانطباع بأني لم أسمع، غير أن الاستاذ عاد ليطرح السؤال بحماس نضالي، وهو يحدق في بعينية الذكيتين بفضول متحرق، كما لو كان يحاول جس بشرتي.

(لقد مات في السجن) أجبته بصوت اهترى ثم انطفى في نهايته فتنحنحت، ثم لذت بالصمت للحظة قبل أن أكمل : (لقد كانوا يعاملونه كسجين رأي). قلت هذا ،ثم شعرت بأني أتوق لآن تقذف بي عاصفة الى حيث لا يعود التفكير مؤلما، فقد كانت نوابض غضبي قد تحررت.

(اللعنة)أجاب وهو يرفع يديه فجأة ليخفي وجهه. ثم كرر لعنته مرة أخرى وهو يضرب بيده الكتاب ألذي كان يتشمس علي فخذه بقوة.

(ماذا، ... ماذا. ... ما الذي حصل ياأستاذ رامي ؟) سمعنا السؤال ، ثم برز بيننا من الخلف وجه الطبيب"علي" مقطبا حاجبيه، بعد أن سبقه صوته. و عندما شاهدت في المرآة عينيه الجاحضتين تتدليان حول أنفه كحبتي عنب وحيدتين في عنقود، خمنت أنه قد أستفاق بتأثير أنين الكتاب."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  3 سبتمبر 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الأربعاء، 2 سبتمبر 2015

كل هذا لم يحدث صدفة ...

          "... لماذا يجب أن يخيم الصمت على الجرائم التي أرتكبت، كما لو كانت زلة انفعال عابرة ،… ولأجل من؟… لقد كان الذي حدث مرعبا، كونه حدث من هؤلاء الذين لايمكن أن نتوقع هذا منهم. ياالهي … لماذا تبدو كل هذه الذنوب الفادحة كما لو أن شيئا منها لم يحدث على الاطلاق؟ لقد سقط وهو يقول لهم شيئا ما، فاغرا فاه، فتبعثرت معه حفنة من الأحلام، ربما دون أن تند عنه صرخة أو يبكيها.
ترى ما الذي يعنيه هذا الذي جرى له قبل أن يغمض عينيه، وهو يتنفس بصخب، عندما انبثق السؤال الكبير من مقلتيه كفراشة حزينة، التفت حولهم قبل أن يتشضى النور الذي كان يقطر الحياة في عينيه، مفلتا تعجبا صارخا، ثم انطفأ؟ ترى هل تسأل أحد سوانا كيف مات، و لماذا، و فيما كان يفكر عندما دخل نفق الموت وتاه فيه؟ و هل ارتسمنا في خياله عندما أغمض عينيه دون وداع، و رحلت أطيافنا المولولة، معه الى تخوم أرض الموتى، هناك بعيدا حيث لاعودة؟ لقد كان هنا ثم لم يعد موجودا ، فماالذي يفيده ان وضعوا أسمه في سجل الموتي، بخط أسود، وأعطوه رقما وتاريخا، وسموه شهيدا؟ لقد كنت أود بقوة ان أضيف تساؤلا حزينا آخر، و دموعي تنهمر، لكن لم أجد في نفسي الشجاعة الكافية لذلك، يا الهي … كل هذا لم يحدث صدفة. يارب… لماذا ولدت هنا في هذا المكان الذي ينضح بالرياء والأكاذيب، … هنا البعض، يمكنهم يظهروا حقيقة ما هم قادرون عليه، وما في في قلوبهم من تصحر..."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  3 سبتمبر 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الجمعة، 21 أغسطس 2015

حدث في تلك الليلة ...

       " فتحت عينيها برعب، وهي تلهث من الخوف. انه قادم. انه قادم، انها تسمع أنفاسه اللاهثة من بعيد. ليس هذه المرة قالت في نفسها، وبقوة عجيبة انتزعت معصميها من الربطة القماشية التي أوثقها أهلها بها في السرير. كان قلبها يخفق بعنف، ولم يكن يدخل غرفتها الا بصيص من نور القمر. كانت تحس بوجوده، وتشم رائحته ... كانت تشعر به يتقدم نحوها.  قفزت مرتعبة من فوق جسد امها التي كانت تغط في النوم على الأرض قرب سريرها، وفتحت الباب وانطلقت صاعدة الجبل المنتهي انحداره قرب غرفتها. سمعت صراخا وجلبة، ثم سمعته يلهث خلفها، سمعت أقدامه العديدة تركض خلفها، وكان يناديها تارة بصوت امها وتارة أخرى بأصوات اخوتها. أحست بالدماء تنزف من قدميها ومن أطراف أصابعها و ركبتيها. شعرت به يقترب منها أكثر، لكنها كانت عازمة على أن لا تدعه يمسك بها هذه المرة. وصلت قمة الجبل وأسرعت الى حافته، لكنه كان خلفها، خلفها. (يا أختي توقفي! توقفي يا صالحة …)، صاح بها بصوت أخيها محاولا خداعها، لكنها كانت تعرف الاعيبه. كان هناك نور خافت ينبعث من "مقبرة الصحابة" هنالك عند طرف بصرها. أحست بيده بالكاد تلامسها، ثم شعرت بجسمها يصبح بلا وزن تقريبا . (لا لا لا ...، لا يا صالحة…)، سمعت صراخه، كان ينتحب بحرقة ، فعرفت أنها أفلتت من قبضته الى الأبد. ... حدث هذا ليلة اليوم الذي حدث فيه الرجل الغريب الطفل عن الوردة، أول مرة!"

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  22 أغسطس 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

زقاق الدرقاوية

        " ... عدت أدراجي ومررت بداخل الزقاق. وأشعرني النظر اليه مثلما هو الحال مع كل الأزقة التي تتمدد حول السوق ،بأني في مواجهة التاريخ. الماضي كان ممدودا أمامي و خلفي وفي كل مكان، و كان يعلن عن نفسه كراية فوق الاحجار التي نقشها الأندلسيون بأظافرهم و عرقهم خلال العقد الأول من انشائهم لهذه المدينة قبل أكثر من أربعة قرون، دون أن يدري أي منهم شيئا عن الماضي المظلم الذي تسبب في خراب هذه المدينة وتركها أطلالا لقرون من الزمان قبل أن تطا أقدامهم ثراها. (لابد أنه كان زمنا مرعبا) تذكرت تعليق الاستاذ "رامي" ، عندما كان يخبرني بعضا من تاريخ المدينة بينما كنا في السيارة ، (نعم لا بد أن شيئا عظيما قد حدث ولكن لا أحد يدري ماهو) ، قال وهو يتأمل البحر الذي ارتسم على زجاج السيارة. وفجاءة اصدمت بوجهي هبة ريح رقيقة فانتشلتني لبرهة من شريط ألذكريات، التي كان من الممكن أن لا أعيشها لولا قضية" صالحة". كانت رائحة الزقاق رطبة مشحونة طوال الوقت ببعض من عبق البخور، وكان خاليا من البشر عندما دخلت الى المكان الذي بدا كما لو أن الزمن الحديث قد أدار له ظهره. (لكن هل تسلل الرعب الى قلوبهم عندما جالوا للمرة الأولى بين الأطلال، التي مر بها أجدادهم الفاتحين منذ قرون وأي أوهام ورؤى مظلمة تعرت أمامهم ورائحة البحر لم تزل تتسرب من ثيابهم)، تذكرت هذه العبارة التي قالها الأستاذ "رامي" بلهجة مفخمة، وهو يتفحصني بنظرته الهيتشكوكية التي تعودت عليها عندما يتحدث عن الرعب. الزقاق كان مسدودا بباب مقوس أندلسي الطراز في نهايته من الجهة اليمنى، وكان الباب الوحيد في الزقاق الذي لم يكن مغلقا بالكامل، فاقتربت منه، ولكن عندما كنت وضع يسمح لي بالقاء نظرة الى الداخل، سمعت مواء حادا أتى من شجرة التين التي كانت أغصانها تطل من فوق الباب، وتتسلل بين فجوات الجدار الخرب من الأعلى، وسمعت صوت سيدة تقترب من الباب، فقفلت راجعا على عجل، بينما كان صوت الأستاذ "رامي" ينبعث من زوايا ذكرياتي ( أي قرطاس ملعون نقل اللعنة في حروفه الى هذه المدينة، وهل نبش الصوفيون الذين تواردوا اليها كالذباب كل الأحجار والشقوق بحثا عن القرطاس المسحور أم تلبستهم لعنة الكلمات) قال ذلك وهو يقهقه بصوت عالي عند دخولنا الي المدينة، ثم تابع بصوت من خطرت له فكرة غير متوقعة (حكومة العالم الخفية،...اللعنة، كيف لم يخطر ذلك ببالي ) ، فأوقفت السيارة فجاءة و أنا أنظر اليه متعجبا كما لو كنت أتفحص مخبولا. عندها قال (أستمر، أنا أمزح بالطبع).

         لم يكن بالزقاق الا مجموعة من البيوت الصغيرة من دور واحد ما عدا بيتان كانا من دورين أحداهما في داخل الزقاق والأخر قرب نهايته لجهة السوق،وكانت المسافات الفاصلة بين الأبواب فارغة الا من بعض النوافذ الصغيرة الموصدة هنا وهناك، وبدت دون أية زخارف أو تفاصيل بارزة. الا ما يخبر عن الطابع الأندلسي. أما الجدران فكانت باهتة ولم ترى طلاء جديدا منذ فترة طويلة. القيت نظرة عابرة بداخل الزقاق تجاه الأبواب المقفلة، و لحسن الحظ لم أتقابل مع أي من الساكنين. وفي النهاية وقفت في مدخل الزقاق ملقيا نظرة أخيرة عليه. وفجاءة سمعت صوت باب يفتح، فتحركت بحذر الى زاوية الزقاق الأقرب الي سوق الخضار، مما يسمح لي بأن لا أكون مرئيا بسهولة لمن يخرج ، وركزت بصري ناحية الصوت، كما لو أن شبحا سيبرز منه، وكنت أمل أن يكون "المريد" ولكن لم يخرج أحدـ وعندما هممت بدخول الزقاق للاقتراب بحذر من الجهة التي صدرت عنها الضجة، سمعت فجاءة صرير نافذة تفتح من الجهة العلوية للمبني الواقع في مدخل الزقاق من اليسار ،وأطل منها للتو وجه شابة نظرت باتجاه مدخل المبنى في الأسفل ثم الى مدخل الزقاق، ولم يكن بامكانها أن تراني بسهولة من زاويتها. كان راس الفتاة عاريا و وجهها جميلا و شاحبا يشوبه بعضا من الحزن، مثل وجوه اللاتي قضين أغلب شبابهن في عتمة الجدران الرطبة، التي تفقد النساء ذلك السحر بالحياة والحيوية. و الحقيقة أنني لم أنتبه لطول الوقت الذي تفرست في وجهها، بأحاسيس متناقضة فقد ذكرني شحوبها و مسحة الكدر الغامضة التي تلفها بـصالحة، و لدقائق شعرت بأني لم أكن قادرا أن أعطي ظهري لهذا الوجه، وعندما تحركت من مكاني قليلا التقت عينانا، وشعرت في نظرتها التي خيمت عليها هالة حزينة، نظرة حيوان بري قبض عليه بعد صراع طويل، حينها باغتني صوت مألوف من خلفي: ( انه زقاق الدرقاوية)، وعندما التفت متفاجئا، وجدت "شيخ الطريقة" بجسمه المنحني النحيف وعيناه اللتان تشعان بنور باهت يبتسم و هو يربت على كتفي بهدوء (أرى انك مهتم بمعالم مدينتنا. هذا هو زقاق الدرقاوية، وهو في اسمه ينتسب الى الطريقة الدرقاوية التي أسسها "سيدي العربي الدرقاوي الذي ولد في المغرب قبل أكثر من قرنين) ، ... "


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  21 أغسطس 2015
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 


الخميس، 20 أغسطس 2015

ألم وحنين ويأس ...

الصورة من تصوير الفنان شحات اشليمبو
       "... غير أن "لماذا الوردة" رفع ذراع "المريد" بقوة فابعدها ودفع به بقوة حتي سقط على السياج الحديدي المزخرف للكنيسة، وبينما كان هذا الأخير لا يزال غيرمستوعب تماما لما حدث، قفز "لماذا الوردة" عدة خطوات للخلف وهو يصيح بصوت مبحوح كما لو كان يوجه له عتابا، بعينين تقطران شررا وشفتين مرتعشتين من غضب عارم:" قا ا ا ا ا ل أمك" وهو يضرب الأرض بقدمه بقوة . وبينما التفتت المرأة ومرافقتها ذات الخدين الحمراوين باتجاهه، دون أن تعيراه أي أهتمام خاص ، ثم زادتا من سرعتهما مبتعدتين، هبط "لماذا الوردة" على ركبتيه ناظرا باتجاههما، ثم تقرفص على نفسه في وسط الشارع، وتنشق الهواء بصوت مسموع، ثم لم ليبث أن انخرط في نوبة بكاء حار بصوت مخنوق، كانما اثار شيئا ما ألما وحنينا في داخله. وحين سقط المسكين في تلك الحالة، توقف في الجوار الرجل الأصلع عن حك رأسه الذي يشبه قدر فخار أملس،و هو يغمغم بكلمات غير مفهومة بلغة أهل صقلية، و لا حت من الفتاة التي كانت تسير متمايلة بمحاذاة البارجة الحارسة نظرة سريعة متعجبة باتجاهه. وفي الحال دبت الحياة في الشارع بمذاق الدراما الاجتماعية، حيث برز فجاءة عدة رجال من الكواليس، متسائلين عما اذا كان الرجل قد سمع للتو خبر وفاة عزيز، و ارتسمت على بعضهم نظرات يمكن وصفها بالمشفقة، قبل أن يمدوا أذرعتهم ليرفعوه من ذراعية. و بينما كان البغل الذي وصل للتو يرفع رأسه مقاوما صاحبه غير راغب في مغادرة المكان، أستجاب "لماذا الوردة" للمساعدة بحركة جسمه وهو ينظر الى الأرض بارهاق، كمن يشعر بالقئ، مادا يديهه الى الجانبين على مداهما في حركة متكلفة دون مقاومة، وأدار مقلتيه بخوف الى الجانبين باحثا عن حاصد الأرواح، وهو يشعر بعدم الأمان. وبعدما اطمأن "لماذا الوردة" لسلامة موقفه، هبت نفحة متمردة من الهواء،استسلم بعدها البغل الذي كان يهدر وهو يدك الأرض بحافره، ثم سكن الهواء فجاءة، فانتاب "لماذا الوردة"انفعال يشير الى السعادة، بينما كان البدوي صاحب البغل لا يزال يلعن وهو يلتقط ربطة رأسه التي قذف بها الى الأرض وسط المعركة. ثم أحس "لماذا الوردة" بالرغبة في مواصلة الحديث الذي انقطع الى ما لا نهاية، عندما أطلق ألحيوان صوتا يأسا، لكنه لم يتذكرالموضوع ولا مع من كان يتحدث."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  20 أغسطس 2015
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

السبت، 8 أغسطس 2015

الغريق الذي لفظه البحر ...

" ... ، ذات مرة، حكى أحدهم أن "عيازو" قد وعي العالم بضربات رأسه، وقد أعجبتني عبارته هذه حتى أني خربشتها أنذاك في كراستي. وعندما كبرت عرفت أن هذا المتثاقف قد انتزع هذه العبارة من فم "هيغل" الذي قال أن "نابليون وعي العالم على ظهر جواد". وقد يكون في الأمر، بعضا من السخرية - وقد يقول البعض حتى انها مهزلة - أن يقارن بين "عيازو" و الكورسيكي الذي حاول وضع أوربا في سروال واحد، ففي الحقيقة لم يكن يتداول آنذاك من أخباره بين شباب المدينة، الا ما يفيد بأن اهتماماته الاصيلة لم تتجاوز احتقار قوانين وقيم  النفاق والقشور الاجتماعية الفوقية التي تغطيه ، كما كان يحب ان يسميها، و التي ربما لم تتجسد في فكرتغيير أو ثورة بمفهوم تلك الأيام الا في وقت لاحق نسبيا.

منارة بوعزة في درنة كما رسمها
جندي ايطالي 
سنة 1912
ورغم كل الثغرات والمبالغات في قصة "عيازو" ، فأني أعرف بحق، أنه بعد أن القى الجنرال القصير خطابه الشهير في رجاله منتصبا تحت راس أبو الهول المدكوك الأنف، هاتفا بهم: " أيها الجنود، ان أربعين قرنا من الزمان ترنو بأنظارها اليكم" ، وقف - بعد ذلك بحوالي القرنين- عيازو" الذي لم يكن يفوقه طولا أمام جماعته، تحت سماء زرقاء  ربيعية صافية، بقميص أبيض مفتوح و بنطال جينز بالي و ضيق يتعلق بخاصرته النحيلة بلا حزام، على ربوة واطئة بجانب منارة "سيدي بوعزة" التي أطلق عليها اسم "منارة المعارك"  ليلقي كلمته التي لا زلت أتذكرها حتى يومنا هذا. والحقيقة أني لازلت أستغرب عبارات "عيازو" ،التي لم أنساها ابدا، والتي أوضحت لي بعد مرور السنوات، أنه كان هناك في تجويف ذلك الراس المدبب القاسي البارع في تسديد الضربات، كمية خطرة من المادة الرمادية التي تم ترويضها في غفلة من الزمن لتحمل هم الصراع المنتظر، و تنتقي مثل تلك العبارات التي لاتنسی،  التي تبدو لي كغريق لفظه البحر بعد عناء دام قرون. و الحقيقة  أني ذكرت "لم أنساها أبدا" رغم أن لدي بعض الشكوك المبررة في دقة ذاكرتي، وأحتمال كوني قد وضعت بعض الكلمات على لسانه دون وعى مني. وأجدني أتساءل أحيانا  ان كان "عيازو" قد قال ذلك كله فعلا، أم أن غبار السنين قد خلط  خطى الكلمات، فكلنا يعرف هشاشة الذاكرة وعدم امكان التيقن من حقيقة ما تفيض به."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  8 أغسطس 2015
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 
الرسم لمنارة بوعزة سنة 1912 ، رسمها بالالوان المائية جندي ايطالي.

الأربعاء، 5 أغسطس 2015

اللعنة، ... لكن التاريخ كما حدث يختلف!

       " ... و لربما كان من المحتمل ان يجد "لماذا الوردة" نفسه محتكا مع جموع لا تعرف عن حقيقته شيئا، متفكرا بطريقته في صفوف العابرين ، الذين وصفهم في احدي المرات بانهم  " ليسواأكثر من حيوات بائسة هشة تسعى بتواطئ عقلي نحو جحيمها المسكر، الذي تلفه رائحة الانتظار، الذي  تعطي البعض احساسا مخدرا بأنهم لا زالو على قيد الحياة". أولربما كان من الممكن أن يعبر يتسلل في أوقات أخرى، عبر حيوات أخرى أقل قدرة على الانكسار وأقل انسانية، ملقيا بكلمات، من حين لآخر ، مونولوجات وجمل مربكة مما يلفظه العالم العقلي الذي يعيشه كي يستطيع متابعة العيش، مكررا أعترافه بأنه "لا يدري من أين أتى"، وهو يرفع يديه باتجاه الشمس كما لو كان يقدم قربانا لـ "آمون" عبر فرجة من بين السحاب، أو يصيح وهو يضيق عينيه متفرسا لبرهة في قطة تلوى ظهرها مذكرة اياه بأحد الصالحين : "اللعنة، ... لكن التاريخ كما حدث يختلف يا عباد الله..." ، وهي اللازمة التي كان يحب أن يضيفها من وقت لآخر، وهو يتقافز كفارس شاهرا سيفا مثل الفاتحين باسم الرب، بينما تتابعه بسخرية عيون تلتصق نظراتها به كغراء، وهي لاترى من وراء مظهره وحديثه المربك سوى كينونة مضطربة، مرتهنة في يد الشيطان، بينما يوجه هو اصبعه تجاهها ،كاتهام ، صائحا بصوت مرتعش كضمير في عريه، بجمل متباعدة حول "تاريخ -ما- متخيل، يصبغ أطرافه العنف". و لعله كان من الممكن أن تسير الامور مع "لماذا الوردة" على هذا النحو، هذا دون أن يدري سوى بعض الفانين بأن لديه رأيا مميزا حول هذا العالم، لعله سر بؤسه وجروح روحه وأهواله الداخلية. و لربما كان عليه أن يبدأ حياة جديدة - في مكان آخر -لا تختلف عن كل حياة عاشاها في كل مكان سابق، كهم تجدد مع أزمنة و أماكن ضاعت."


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 5 أغسطس 2015
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

يا الهي … هل حجبنا الشمس؟

        "... و لم يلبث في الدقائق التالية من تلك الليلة أن استلسم العجوز لشعور قوي لا يدري كنهه يدفعه للتوقف عن التحدث، وكان يبدو  بعينيه المفتوحتين كثقبين لا قرار لهما و تجاعيد وجهه و حاجبيه المقطبين وكتفيه المتدليين، كما لو كان يحس في داخله نوعا من القلق الذي لم يعايشه منذ زمن طويل، ثم رفع بصره باتجاه "لماذا الوردة"و نظر الى ما وراء وجه ضيفه الغامض ،و وهو يتفكر لبرهة في السؤال الذي طرحه الغريب: "هل قلت أنه صرخ: "هل عميت؟"...  أم "أنا عميت" .

بعد ذلك لم يعد الشيخ يجد في نفسه الرغبة لتقييم مستوى مريده في "مدارج السالكين" كما كان قد عزم في البداية، و لم يعد يهتم بما يدور حوله، و قضى الوقت منشغلا بنفسه في محاولة تذكر شيئا ما مر عليه زمن طويل، و شعر المريدون بذلك فتركوه لحاله. وبعد موعد صلاة العشاء خرج الشيخ وانفض مريدوه بالتدريج. وعندما ودع المريد الأخير "لماذا الوردة" وأغلق عليه باب الزاوية ورحل، كان هذا الأخير يحدث نفسه بأنه قد رأى العجوز من قبل في مكان ما، و ربما كان آنذاك من دون لحية، ولكنه أحس في نفسه شعورا مرا، يخبره بأنه ليس مهيئا لعودة تلك الذكرى. ولم يلبث أن التهم السكون كل شيء، و ذوى ببطء الصدى - "يا الهي … هل حجبنا الشمس؟"- الذي كان يتقافز في دماغه، فانخرط لتوه في نوم عميق، فقد كان تعبا بحق."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 5 أغسطس 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الاثنين، 20 يوليو 2015

الصرخة القلقة ...


        ... في الحقيقة لم يتفكر صاحبنا حينها في عبارة "هل حجبنا الشمس؟" التي نطقها الشيخ بشكل درامي، ولم يعلق للتو بأي شيء لانه كان محتجزا في صمته القهري بتأثير رعبه الداخلي من الصرخات الغامضة. وأحس "لماذا الوردة" بجسده يهتز بقوة، عندما عرف عند الصرخة السابعة أنها صدرت منه نفسه ولا أحد غيره، وكان ملؤها الآلم و الوحشة، كما لو أنها انفجرت من نبع الخواء ذاته، حتى أنه بالكاد تعرف على نفسه فيها. وتكور الرجل على نفسه - وقطرات من العرق تتلألأ على جبينه - محاولا السيطرة على ارتعاش جسمه، وهو يتابع جملة العجوز الاخيرة: "ولم يسمع، في ذاك الخلاء العظيم أي فان أخر صدى تلك الصرخة القلقة!". و فجاءة ردد المكان صوت فرقعة صدرت عن المدفأة ، فانتبه أحد المريدين الشباب لحالة الضيف، فدثره بغطاء صوفي غليظ ، وسحب الموقد الصغير الذي يحرق فيه الفحم الى جانبه، فخف إرتعاشه، وشعر بأنه أكثر ضعفا.

وخلال هذا كله ، كان الشيخ يتحدث عما في حياة الأولياء والصالحين من دروس، دون أن يوليالاهتمام لـ "لماذا الوردة" باستثناء بعض النظرات العابرة، بينما لفت هذا الأخير بصوته المرهق انتباه الشيخ - وهو يحاول أن يوفق بين الأفكار الملتبسة التي كانت تدور آنذاك في خلده -  الى أنه "مادمت كل السبل تقود الى اللامكان، فقد كان على الصالحين أن يلزما ذات الطريق". غير أن"لماذا الوردة" لم يدري حقيقة أن خرجت تلك الكلمات من فمه أم لا، وعلى كل فلم يكن لهذا أن يثير أية ندوب نافرة في واجهة قناعاته. ورغم هذه الشكوك، فقد رمشت عينا الشيخ بلا انتظار- عندما كان في أوج لذة حديثه المسكر- ثم تولاه شرود من يتأمل شموع قربان للأرواح التائهة."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 20 يوليو 2015

______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

على الجسر ...


         ذات عشية توقفت سيارة أجرة عجلى على جسر المدينة، لكي تعبر احدى العربات التي تجرها الحمير، فنظر "لماذا الوردة" من داخلها باتجاه الجنوب، واجال بصره ببطء ناحية المقهى الملاصق للجسر، ثم شد السائق من الخلف من ياقته بقوة وهو يصيح :"أنزلني هنا الآن"، غير ملتفت العلامات الدهشة التي أظهرها باقي الركاب. أما السائق المسكين، فقد التفت مفزوعا باتجاه "المكلوب"- كما سماه في قرارة نفسه - محتجا بأن هذه المدينة ليست المكان الذي يريده . وبدون أي تعاطف، شد "لماذا الوردة" السائق من ياقته من جديد ، بقوة أكبر، وهو يصيح بالسائق:

- أنزلني هنا !

وبدون أن يعبأ "لماذا الوردة" بالسائق الغاضب الذي كان يقفل باب سيارته المفتوح وهو يستعيذ بالله، قام بخلع نعليه، و ترك نظره يسرح في القريب والبعيد. ثم تأمل بقايا المياه المنسابة في الوادي، وهو متكيء على حافة الجسر، محاولا أن ينقش في عينيه تفاصيل المشهد كما لو كان يشعر بانه سيختفي بعد حين إلى الأبد. ثم غمره الشعور بغته، بأن شيئا سحريا كان يولد في المكان ويموت بلا انقطاع.

و بينما كانت عصابات من الغيوم الحليبية الصغيرة تتناثر مودعة بعضها، انساب المساء الى الليل فهبط الظلام وحاصره خلسة، دون أن يشعر بمرور الوقت. وقتها كانت هبات الرياح الشمالية الفاترة المنعشة تتلاعب به، فانتشرت لبرهة سكينة مسكرة عبر جسده، وهو يتنشق ، رافعا رأسه كذئب، نغمة الياسمين الخفيفة التي خالطت رائحة الهواء الرطبة.  وتلاشت ببطء الهالة الكئيبة التي كانت تلفه أخذة معها، لبرهة، الصوت الممض الذي كان يدوي في رأسه بأن" القرود هم الجحيم". ثم لاحظ "لماذا الوردة"، ازدياد حركة الشباب والرجال، وتجمع الكثيرون منهم تحت اشجار التين الهندي العملاقة بداخل المقهى المطل على الوادي. ثم جال ببصره ببطء في أرجاء المقهى، متجاهلا القرود التي كانت تتقافز وهي وترمقه بعيون زرقاء لامعة ساخرة.

و قتها أشاعت زقزقة العصافير في المكان جوا مسالما، و كان ثمة شبابا وكبارا مهندمون يستمتعون بوقتهم على مقاعد المقهى.  و حرك هذا في أعماق "لماذا الوردة"  ذكرى أصدقاء له كان فيما مضى  يسامرهم، لهم ذقون حليقة وأرواح رقيقة عند حواف عيونهم.  ورفع رأسه  وهو يعاني من انفجار مشاعره، فلفت انتباهه الصناديق الخشبية الصغيرة المعلقة على أشجار المقهى، التي انساب منها صوت "أم كلثوم":" رجعوني عنيك لأيامي اللي راحو … "


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 20 يوليو 2015

______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الأحد، 19 يوليو 2015

المقهى ...

القوس المنقوش بنبات السلفيوم
عند المدخل الجنوبي لسوق الظلام في درنة
        الحق أنه ما كان يمكن للغريب العابر في ذلك الزمان، الا أن يتساءل عن عشق تجار سوق الظلام لشاي "الحاج ابريك" ، وغرامهم به. فلسنين طويلة، كان شرب هذا الشاي، الذي يقدمه الحاج بنفسه، في أكواب زجاجية، مزينة بعدة أوراق نعناع خضراء طازجة على صينية  نحاسية عتيقة، أحد الطقوس اليومية التي تعودها أصحاب المحلات، عندما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث مع رفاقهم، وهم جالسين، عند عتبات محلاتهم.

      والأمر اللافت، أن أحدا لم يكن يعرف سر نكهة هذا الشاي الرائعة الغامضة، التي استعصت على التقليد، وهو الموضوع الذي كثيرا ما تجادل حوله الزبائن، وهم يقضون السويعات البطيئة الهادئة التي تعودها ساكنوا المدينة في تلك الايام. وكان الجدل كثيرا ما يتأزم حتى يصل الى حد العراك، عندما يكون طرفاه من الشباب العنيدين المشاكسين. أما صاحب السر نفسه فلم يكن يطيق التحدث عنه اطلاقا، بل ويعد ذلك تطاولا عليه، ناهيك عن طبعه المحب للصمت، واختصار الحديث. والحقيقة، أني أميل الآن الى الاعتقاد، بانه ربما لم تكن لذلك الشاي، رغم روعته، تلك الهالة لولا تلك المجادلات المتكررة، و شخصية الحاج، بملابسه المميزة، و قسماته الابنوسية الصارمة ونظراته المتراقصة المبهمة. هذا بالاضافة الى كلماته السريعة المتداخلة، والحكايات الشائعة في ذلك الحين حول روتين حياته وتصوفه، والتي كانت كلها تشكل مع رائحة "النعناع الدرناوي" الفواحة الممتزجة برائحة الشاي الخافتة الخجولة، مزيجا عجيبا متناغما ومغويا.

***

       وكانت الطقوس اليومية للحاج تبتدي منذ اللحظة التي يغلق فيها باب بيته بهزتين قويتين، وتلك الأعمال والتفاصيل التي تتكرر بحذافيرها صيفا و شتاء: في الصباح الباكر، يحث الخطى بحذائه القماشي الخفيف البني ، يتبعه أحد ابناءه حاملا صرة غامقة محكمة الاغلاق، وكالرياضي الرشيق يعبر شارع المغار الغربي متدثرا بمعطفه الطويل، منحدرا باتجاه بقالة بوعصبانة،  بخطوات قصيرة عجلى كزوبعة، بينما يتأرجح ظله الرفيع الباهت أمامه كالبندول. بعدها لا يلبث أن ينعطف باتجاه مسجد "بوغرارة" بحركة حادة، محييا البعض بصوت منخفض وبكلمات مقتضبة كالهمهمات، ضاغطا بأصابعه النحيلة أثناء هذا كله، على فتحة حقيبة السعف المنتفخة بقوة، حتى لا تعلن عما في جوفها من أسرار، بينما تثقبها نظرات الفضوليين. وفي النهاية يصل الى باب مقهاه ، فيفتحه وهو يلقي نظرة خاطفة الى الجهتين، ويدخل هو وابنه ويقفلان الباب خلفهما.
        في تلك اللحظة ، يعرف كل أرباب المحلات الملاصقة للمقهى، الجالسين أمام دكاكينهم ، أنه بعد أن تفوح رائحة الفحم المشتعل و يخرج الفتى ليقف كالحارس الأمين أمام الباب المغلق، يكون الوقت قد أزف ليتفرغ الحاج، لخلط وصفته السرية، التي لن تلبث أن تعلن عن نفسها عبر شقوق الباب الموصد . بعدها يفتح الحاج باب مقهاه ويجهزه بحركات سريعة تبدو غير متكلفة، ويبدأ في توزيع الشاي على الزبائن، بوجه قليل التعابير، كقناع أفريقي عتيق، يخفي وراءه عالما مجهولا غامضا من الأحاسيس والأفكار. وفي مثل تلك اللحظات، كان يخال للناظر أن الحاج يقوم بكل هذه الحركات بانتباه وهدوء، كأنه وحيد في هذا العالم.
       غير أنه في صباح ذلك اليوم من تلك السنة، كان "الحاج ابريك"، على غير عادته متوترا في سكناته وحركاته. ولم يكن هذا بسبب قلق حول موراده المالية، فالمقهي الذي افتتحه منذ أيام الاحتلال يعمل جيدا، والزبائن القدامى أدمنوا شاهيه، وكل يوم يأتي غرباء عابرين للمقهى. أما الحقيقة، فان ما أثار زوبعة في نفسه، هو الخبر الذي جاء من يهمس به في اذنه في الليلة الماضية، حول انضمام ابنه الى جماعة "عيازو".

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 19 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الثلاثاء، 14 يوليو 2015

كان هناك ندائف من السحابات...

       "... كان هناك ندائف من السحابات المهترئة تعبر وجه السماء الأزرق، عندما جاء الصوت:"كان من المفروض أن تطلب أنت تشريح الجثة، لأن الموتى قد يصبحون مصدر قلق. ربما هي لا تعرف شيئا عن السجون اللعينة، ولكنك محقق، … اسمح لي… لكني لو كنت مكانك لما تركت الأمر يمر بهذه البساطة" . كان في صوت الدكتور "رامي" رنة عتاب، و زم شفتيه عندما تلاقت نظراتنا لجزء من الثانية، وكان في عينيه هسيس: "أعذرني لهذه الصفعة التي وجهتها اليك ولكن لماذا لم تفعل شيئا، فهنا حقائق ما كان يجب أن تترك للنسيان." أما أنا فتمالكت نفسي لكي لا انهار دفعة واحدة ، ومسحت خفية دمعة الحنق الخجولة التي انعتقت من محجر عيني...."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 15 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر