بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 20 يوليو 2015

الصرخة القلقة ...


        ... في الحقيقة لم يتفكر صاحبنا حينها في عبارة "هل حجبنا الشمس؟" التي نطقها الشيخ بشكل درامي، ولم يعلق للتو بأي شيء لانه كان محتجزا في صمته القهري بتأثير رعبه الداخلي من الصرخات الغامضة. وأحس "لماذا الوردة" بجسده يهتز بقوة، عندما عرف عند الصرخة السابعة أنها صدرت منه نفسه ولا أحد غيره، وكان ملؤها الآلم و الوحشة، كما لو أنها انفجرت من نبع الخواء ذاته، حتى أنه بالكاد تعرف على نفسه فيها. وتكور الرجل على نفسه - وقطرات من العرق تتلألأ على جبينه - محاولا السيطرة على ارتعاش جسمه، وهو يتابع جملة العجوز الاخيرة: "ولم يسمع، في ذاك الخلاء العظيم أي فان أخر صدى تلك الصرخة القلقة!". و فجاءة ردد المكان صوت فرقعة صدرت عن المدفأة ، فانتبه أحد المريدين الشباب لحالة الضيف، فدثره بغطاء صوفي غليظ ، وسحب الموقد الصغير الذي يحرق فيه الفحم الى جانبه، فخف إرتعاشه، وشعر بأنه أكثر ضعفا.

وخلال هذا كله ، كان الشيخ يتحدث عما في حياة الأولياء والصالحين من دروس، دون أن يوليالاهتمام لـ "لماذا الوردة" باستثناء بعض النظرات العابرة، بينما لفت هذا الأخير بصوته المرهق انتباه الشيخ - وهو يحاول أن يوفق بين الأفكار الملتبسة التي كانت تدور آنذاك في خلده -  الى أنه "مادمت كل السبل تقود الى اللامكان، فقد كان على الصالحين أن يلزما ذات الطريق". غير أن"لماذا الوردة" لم يدري حقيقة أن خرجت تلك الكلمات من فمه أم لا، وعلى كل فلم يكن لهذا أن يثير أية ندوب نافرة في واجهة قناعاته. ورغم هذه الشكوك، فقد رمشت عينا الشيخ بلا انتظار- عندما كان في أوج لذة حديثه المسكر- ثم تولاه شرود من يتأمل شموع قربان للأرواح التائهة."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 20 يوليو 2015

______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

على الجسر ...


         ذات عشية توقفت سيارة أجرة عجلى على جسر المدينة، لكي تعبر احدى العربات التي تجرها الحمير، فنظر "لماذا الوردة" من داخلها باتجاه الجنوب، واجال بصره ببطء ناحية المقهى الملاصق للجسر، ثم شد السائق من الخلف من ياقته بقوة وهو يصيح :"أنزلني هنا الآن"، غير ملتفت العلامات الدهشة التي أظهرها باقي الركاب. أما السائق المسكين، فقد التفت مفزوعا باتجاه "المكلوب"- كما سماه في قرارة نفسه - محتجا بأن هذه المدينة ليست المكان الذي يريده . وبدون أي تعاطف، شد "لماذا الوردة" السائق من ياقته من جديد ، بقوة أكبر، وهو يصيح بالسائق:

- أنزلني هنا !

وبدون أن يعبأ "لماذا الوردة" بالسائق الغاضب الذي كان يقفل باب سيارته المفتوح وهو يستعيذ بالله، قام بخلع نعليه، و ترك نظره يسرح في القريب والبعيد. ثم تأمل بقايا المياه المنسابة في الوادي، وهو متكيء على حافة الجسر، محاولا أن ينقش في عينيه تفاصيل المشهد كما لو كان يشعر بانه سيختفي بعد حين إلى الأبد. ثم غمره الشعور بغته، بأن شيئا سحريا كان يولد في المكان ويموت بلا انقطاع.

و بينما كانت عصابات من الغيوم الحليبية الصغيرة تتناثر مودعة بعضها، انساب المساء الى الليل فهبط الظلام وحاصره خلسة، دون أن يشعر بمرور الوقت. وقتها كانت هبات الرياح الشمالية الفاترة المنعشة تتلاعب به، فانتشرت لبرهة سكينة مسكرة عبر جسده، وهو يتنشق ، رافعا رأسه كذئب، نغمة الياسمين الخفيفة التي خالطت رائحة الهواء الرطبة.  وتلاشت ببطء الهالة الكئيبة التي كانت تلفه أخذة معها، لبرهة، الصوت الممض الذي كان يدوي في رأسه بأن" القرود هم الجحيم". ثم لاحظ "لماذا الوردة"، ازدياد حركة الشباب والرجال، وتجمع الكثيرون منهم تحت اشجار التين الهندي العملاقة بداخل المقهى المطل على الوادي. ثم جال ببصره ببطء في أرجاء المقهى، متجاهلا القرود التي كانت تتقافز وهي وترمقه بعيون زرقاء لامعة ساخرة.

و قتها أشاعت زقزقة العصافير في المكان جوا مسالما، و كان ثمة شبابا وكبارا مهندمون يستمتعون بوقتهم على مقاعد المقهى.  و حرك هذا في أعماق "لماذا الوردة"  ذكرى أصدقاء له كان فيما مضى  يسامرهم، لهم ذقون حليقة وأرواح رقيقة عند حواف عيونهم.  ورفع رأسه  وهو يعاني من انفجار مشاعره، فلفت انتباهه الصناديق الخشبية الصغيرة المعلقة على أشجار المقهى، التي انساب منها صوت "أم كلثوم":" رجعوني عنيك لأيامي اللي راحو … "


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 20 يوليو 2015

______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الأحد، 19 يوليو 2015

المقهى ...

القوس المنقوش بنبات السلفيوم
عند المدخل الجنوبي لسوق الظلام في درنة
        الحق أنه ما كان يمكن للغريب العابر في ذلك الزمان، الا أن يتساءل عن عشق تجار سوق الظلام لشاي "الحاج ابريك" ، وغرامهم به. فلسنين طويلة، كان شرب هذا الشاي، الذي يقدمه الحاج بنفسه، في أكواب زجاجية، مزينة بعدة أوراق نعناع خضراء طازجة على صينية  نحاسية عتيقة، أحد الطقوس اليومية التي تعودها أصحاب المحلات، عندما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث مع رفاقهم، وهم جالسين، عند عتبات محلاتهم.

      والأمر اللافت، أن أحدا لم يكن يعرف سر نكهة هذا الشاي الرائعة الغامضة، التي استعصت على التقليد، وهو الموضوع الذي كثيرا ما تجادل حوله الزبائن، وهم يقضون السويعات البطيئة الهادئة التي تعودها ساكنوا المدينة في تلك الايام. وكان الجدل كثيرا ما يتأزم حتى يصل الى حد العراك، عندما يكون طرفاه من الشباب العنيدين المشاكسين. أما صاحب السر نفسه فلم يكن يطيق التحدث عنه اطلاقا، بل ويعد ذلك تطاولا عليه، ناهيك عن طبعه المحب للصمت، واختصار الحديث. والحقيقة، أني أميل الآن الى الاعتقاد، بانه ربما لم تكن لذلك الشاي، رغم روعته، تلك الهالة لولا تلك المجادلات المتكررة، و شخصية الحاج، بملابسه المميزة، و قسماته الابنوسية الصارمة ونظراته المتراقصة المبهمة. هذا بالاضافة الى كلماته السريعة المتداخلة، والحكايات الشائعة في ذلك الحين حول روتين حياته وتصوفه، والتي كانت كلها تشكل مع رائحة "النعناع الدرناوي" الفواحة الممتزجة برائحة الشاي الخافتة الخجولة، مزيجا عجيبا متناغما ومغويا.

***

       وكانت الطقوس اليومية للحاج تبتدي منذ اللحظة التي يغلق فيها باب بيته بهزتين قويتين، وتلك الأعمال والتفاصيل التي تتكرر بحذافيرها صيفا و شتاء: في الصباح الباكر، يحث الخطى بحذائه القماشي الخفيف البني ، يتبعه أحد ابناءه حاملا صرة غامقة محكمة الاغلاق، وكالرياضي الرشيق يعبر شارع المغار الغربي متدثرا بمعطفه الطويل، منحدرا باتجاه بقالة بوعصبانة،  بخطوات قصيرة عجلى كزوبعة، بينما يتأرجح ظله الرفيع الباهت أمامه كالبندول. بعدها لا يلبث أن ينعطف باتجاه مسجد "بوغرارة" بحركة حادة، محييا البعض بصوت منخفض وبكلمات مقتضبة كالهمهمات، ضاغطا بأصابعه النحيلة أثناء هذا كله، على فتحة حقيبة السعف المنتفخة بقوة، حتى لا تعلن عما في جوفها من أسرار، بينما تثقبها نظرات الفضوليين. وفي النهاية يصل الى باب مقهاه ، فيفتحه وهو يلقي نظرة خاطفة الى الجهتين، ويدخل هو وابنه ويقفلان الباب خلفهما.
        في تلك اللحظة ، يعرف كل أرباب المحلات الملاصقة للمقهى، الجالسين أمام دكاكينهم ، أنه بعد أن تفوح رائحة الفحم المشتعل و يخرج الفتى ليقف كالحارس الأمين أمام الباب المغلق، يكون الوقت قد أزف ليتفرغ الحاج، لخلط وصفته السرية، التي لن تلبث أن تعلن عن نفسها عبر شقوق الباب الموصد . بعدها يفتح الحاج باب مقهاه ويجهزه بحركات سريعة تبدو غير متكلفة، ويبدأ في توزيع الشاي على الزبائن، بوجه قليل التعابير، كقناع أفريقي عتيق، يخفي وراءه عالما مجهولا غامضا من الأحاسيس والأفكار. وفي مثل تلك اللحظات، كان يخال للناظر أن الحاج يقوم بكل هذه الحركات بانتباه وهدوء، كأنه وحيد في هذا العالم.
       غير أنه في صباح ذلك اليوم من تلك السنة، كان "الحاج ابريك"، على غير عادته متوترا في سكناته وحركاته. ولم يكن هذا بسبب قلق حول موراده المالية، فالمقهي الذي افتتحه منذ أيام الاحتلال يعمل جيدا، والزبائن القدامى أدمنوا شاهيه، وكل يوم يأتي غرباء عابرين للمقهى. أما الحقيقة، فان ما أثار زوبعة في نفسه، هو الخبر الذي جاء من يهمس به في اذنه في الليلة الماضية، حول انضمام ابنه الى جماعة "عيازو".

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 19 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الثلاثاء، 14 يوليو 2015

كان هناك ندائف من السحابات...

       "... كان هناك ندائف من السحابات المهترئة تعبر وجه السماء الأزرق، عندما جاء الصوت:"كان من المفروض أن تطلب أنت تشريح الجثة، لأن الموتى قد يصبحون مصدر قلق. ربما هي لا تعرف شيئا عن السجون اللعينة، ولكنك محقق، … اسمح لي… لكني لو كنت مكانك لما تركت الأمر يمر بهذه البساطة" . كان في صوت الدكتور "رامي" رنة عتاب، و زم شفتيه عندما تلاقت نظراتنا لجزء من الثانية، وكان في عينيه هسيس: "أعذرني لهذه الصفعة التي وجهتها اليك ولكن لماذا لم تفعل شيئا، فهنا حقائق ما كان يجب أن تترك للنسيان." أما أنا فتمالكت نفسي لكي لا انهار دفعة واحدة ، ومسحت خفية دمعة الحنق الخجولة التي انعتقت من محجر عيني...."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 15 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

حتى ذلك النهار ...

        حتى ذلك النهار - عندما لامس الكعب العالي لحذائه المهترئ الذي كان يلمع كخطيئة عابرة تراب المدينة، مترجلا عن سيارة الأجرة، و مط جسمه قليلا كشراع منفوخ ، ومسح على مقدم ساقيه لكي يعيد سرواله "الجينز" الضيق لحاله السابق ، ثم رفع ياقتي سترته البالية، و أخرج سيجارة "جفارة" التي كان يعض عليها بطرفي شفتيه قبل أن يبصق بين رجلي سائق السيارة، بينما كان المذياع يردد "نشيدا" - لم يكن"عيازو" معروفا في مدينتنا.
وبعد أن لوى "عيازو" رقبته بحركة متشنجة في الاتجاهين، حك طرف أنفه بيده اليسري ودفع برأسه الى أقرب نقطة ممكنه من رأس السائق سائلا اياه بنظرة ذات معنى:" أي خدمة؟"، أجاب هذا الأخير بالنفي مبعدا عينية سريعا عن ثقل نظرته، أما "عيازو" فقال له بصوت ناعم انزلق من بين شفتيه كتحذير" اذا ابتعد عن طريقي يارفيق!". عندها أفسح سائق السيارة ذو الوجه الممصوص الطريق لـ"عيازو"، وقد فقد الأمل في التحصل على أجرته، وصاح بصوت خافت خرج من قعرحنجرته الجافة كنفس أخير من اطار مثقوب:"أجري على الله".

ولوهلة نظر "عيازو" الى السماء الصافية ثم اقترب بخفة من السائق - بعد أن تناول شيئا من الكيس القماشي الكبير الذي يحوي حاجياته- حتى كاد أن يلتصق بجسم السائق وصاح به :" يارفيق الجميع يعوزهم شيء، لكن لا شيء يأتي دونما صراع" . أما السائق الذي برزت نقطة عرق على جبهته، ثم انزلقت وهي تلمع الى أنفه، فهز رأسه متصنعا علامة تفهم دون أن ينبس بأي كلمة، و أكتفى في سره، برجاء أن لا يكون هو المقصود بالصراع، وهو ينظر الى "عيازو" بريبة ، بينما كانت قطرة العرق في طريقها من طرف أنفه الى الأرض.

وبينما كان "عيازو" يمضي بخطوات واسعة مبتعدا التفت و صاح بالسائق مذكرا "كل هذا يجب أن يتغير يوما ما… لا بد من الصراع"، وهو يشير باصبعه الى جيبه الأيمن، كما لو كان يقصد شيئا، بينما نظر هذا الأخير حوله بضيق ثم زفر نفسا عميقا وهو لايزال يلعن سرا - دون أية طقوس - حظه العاثر الذي أرسل له هذا "المشكلجي". و بسلوكه هذا كان ذو الوجه العابس يعلن دون أن يطلق أية صرخة حقد بائسة، معرفته أو سماعه بقصة الفتى المتمرد الخطر الذي كان ، على ما بدا له، لا ينتمي بأي شكل لبشر الوطن الطيبين. وعندما وضع السائق يده في جيب معطفه الأيمن ليسحب مفتاح السيارة، وجد علبة. وبينما كان "عيازو" يمضى على قدميه في البعيد، سحب السائق سيجارة من العلبة التي دسها المتمرد خلسة في جبيه، وأشعلها ونفث دخانها بقوة فمرت سحابة أمام عينيه حاجبة الرؤية لوهلة، ... ثم هز راسه و ابتسم.

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 14 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

السبت، 11 يوليو 2015

ربما لم يكن من الضروري ان يعود الراوي ...

        ... ربما لم يكن من الضروري أن يعود الراوي - بعد أربعة عقود - الى سنوات طفولته المتاخرة، ليتذكر "لماذا الوردة" ، فحياة هذا الأخير لم تكن تشكل في تفاصيلها المعروفة له في البداية أي شيء استثنائي. ولم يكن هذا الرجل سوى غريب أطوار، مثل الكثيرين من أمثاله، الذين مروا كأطياف شاحبة باهته في فضاء المدينة -التي وصفها أحدهم بمدينة الدراويش - دون أن يلاحظهم أحد غير بعض المتصدقين و فاعلي الخير. ولعله كان من الممكن أن لا يشكل الغريب أي فارق، في تلك الأحداث العجيبة والغريبة التي كانت تتفاعل و تتداخل لتهز المدينة وسكانها من الصميم.

         نعم ... كان من المحتمل جدا أن يكون "لماذا الوردة" قد واصل مسيره من أمام ضريح "الوشيش" وحتى "سوق الظلام"، ملتحفا الظلال و الأنوار الصفراء الخافتة لشارع الجامع - بدلا من انعطافه الدرامي الى شارع الكنيسة-  دون أن يلفت انتباه أحد، حيث كان سيتحصل بدون أي شك على التبغ و الطعام والمأوى ليوم أو عدة أيام، ليغادر بعدها المدينة الى احدى القرى أو المدن المجاورة. حيث سيتمكن من العيش هناك في شرنقتة الواقية في أحد الشوارع الخلفية المقفرة، لائذا بفقاعة من الصمت وخربشات قلمه، أو مسترقا النظر نحو الأخرين وهم في دوامة وجودهم المنوم، منهوكي القوى، ونظراتهم تائهة في المجهول، تدفعهم عقارب الساعة بلا كلل نحو مستقبل مبهم يصعب التكهن به. أو عابرا، دون أي انتباه من جانبة، هذه الكتل من الكلمات والجمل الطويلة السابقة، ليكمل بقايا حياة حضور انساني لا تجد من يحكي سيرتها وهي تمضي بدمارها الى نهايته، ليغيب في الظلام بين سطور سفر المصير الكبير ، دون أن يجد من يتذكره ، و يتفكر في مغزى حياته ... أو يحزن لغيابه.

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر

نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 11 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

الجمعة، 3 يوليو 2015

ولكن في ذلك اليوم وتلك الساعة و أمام ذلك الضريح ...

        ... ولكن في ذلك اليوم وتلك الساعة و أمام ذلك الضريح ، عندما سدد "عيازو" ذو القميص المزركش، تلك الضربة القوية الساحقة مثل مطرقة، برأسه الذي يشبه جوزة الهند القاسية الى رأس "لماذا الوردة"، كان على الأحداث أن تأخذ منعطفا آخر،بتأثير الصدفة، ولم يكن مهما وقتها - كما يحدث عند كل صدفة- ان كان"لماذا الوردة" ليس في أحسن حالاته، ليتقبل المصير الذي التف حول عنقه كحبل مشدود. و لوهلة، لم يدري هذا الأخير ما الذي حدث له، و صدم عندما تطايرت رقاقات ملونة من قبة ضريح الشيخ أمام عينيه فجاءة، كما لو أنها أرواح بهيجة فرت هاربة من أسر تلك الكينونة الساكنة المستسلمة. وأشعره ذلك بشيء حلو لجزء من الثانية، وان كان قد راوده شك واهي بان كل ما ارتسم في عينيه، كان على نحو لم يستطع تفسيره، غير حقيقي ومتخيل، ويشبه حالة تجل مفاجئة، قبل أن يصعد الآلم من مقدم وجهه الى دماغه مثل سكين محمي، مذكرا اياه من جديد بأصله البشري. وعندها … عندما انبثق الدم وترددت صرخة"لماذا الوردة"تحت السماء وهو يضغط باصابعه العشرة المرتجفة على وجهه، وتسللت لتهز سكون النائم في الضريح مختلطة بصوت ساطور الجزار في الجوار، التف"عيازو" بحركة بارعة كمصارع ثيران ماهر ليمنع تلوث قميصه بالدماء، وهو يترقب بطرف عينه الألم الذي يعرف بفطرته أنه سيولد من عيني الغريب كلهب تنين حانق."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 3 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

وبينما كان المريد، الذي انتابه شعور لا يمكن الافصاح عنه ...

شارع الكنيسة . تصوير الفنان شحات أشليمبو
" ... و بينما كان "المريد" - الذي انتابه شعور يصعب الافصاح عنه -لا يزال ينفض ثيابه مما علق بها من تراب بضربات خفيفة حانقة، وهو يفكر فيما يتعين عليه أن يفعله مع هذا المزعج، ذو التصرفات الخرقاء، الذي يعاني بشدة من افكاره التي عبث شيء ما في لوحة مفاتيحها، خطر بباله السؤال عما ان كان سيستطيع أن يتحمل هذا المخلوق الكئيب، الذي تجاسر عليه ،ان قرر شيخه أن يتركه يسكن في الزاوية فترة طويلة. كما خاف أن يشكل هذا الوجود الانساني المربك تهديدا لهدوء حياته وعلاقته بشيخه. وقاوم ، وهو يشعر بأن أشياء كثيرة قد تهاوت في داخله، شعورا داخليا مقيتا نما بسرعة كالفطر في أحد رفوفه العقلية، يدفعه لكي يشد راس الغريب من شعره بشدة ويدقه على الأرض، حتى يتفتت مثل كعكة بين أصابع خرقاء. ورغم أن فكرة مناقشة هذا الأمر مع شيخه كانت فكرة منطقية، فانه أقصاها من وعيه، لأنه كان يخشى أن يغرق في مستنقع النقاش مع هذا الأخير، وهو ما يعني في نهاية الأمر، أن عليه أن يقول جملة ما - وأي جملة ستكون كافية للغرض - ولكن سيتبع ذلك لزوم أن يطلق العنان لنفسه، ويخبر شيخه عن الشعور الذي انتابه منذ أن قابل "لماذا الوردة" ، بأن العالم ليس مرتبا بالشكل الذي كان يعتقده، ويسترجع كل تلك الافكار المربكة الاخرى التي مرت في راسه أمام الشيخ، والتي أشدها ايلاما ، تلك الشكوك التي انتابته بأن جزا من ماضيه العقلي لا ينتمي اليه بأي حال. ..." 

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 2 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

ألضياع في المجرة

        "... رحلوا دون ان ينتظروا مني ردا، ولمحت في نظراتهم ، ما أثار ريبتي، في أن هناك سرا، وانهم كانوا قد أدوا التزاما، عرفت أنه أكثر الالتزامات ايلاما، لأن المرء لا يخجل منه حتى عندما يشعر في قرارة نفسه أنه يعريه من انسانيته حتى النخاع. وعندما تبادلنا النظرات للمرة الأخيرة ، وقعت أقنعتنا كلها تباعا، الا واحدا حرصت بكل طاقتي على أن يضل ملتصقا ولو بشكل واهي على وجهي، لكي لايتبينوا حقيقة مشاعري. يومها، كان على أن أحتفظ بقناعي ليس خوفا منهم ولكن خشية أن أرى ذلك الشيء منعكسا على عيونهم .

وفي ذلك المساء أخبرتها أنه، رغم كل صلواتها ودعائها ، لن يعود اليها أبدا. و لازلت أذكر أنه قد تملكتني الرغبة في أن أضيف بأن عليها أن تغفر لهم لانهم ضحايا هم الآخرين، رغم يقينهم بأنهم على حق. غير أني لم أستطع قول ذلك، لآن احساسا غمرني بـأنهم لا يصبحون ضحايا عندما نجبر أنفسنا على أن نجد لهم العذر.

أما هي - وقد كان يبدوا أنها لم تكن قلقة ولا عابئة لضياع توسلاتها في المجرة، ولم تفكرحتى في سبب ذلك - فوضعت يدها على وجهي، وتفرست في عيني، ثم سحبت أصابعها فجاءة كما لو أن حية لدغتها ،وأخذت تبكي بحرارة، كأنها أحست بأنه ليس وجهي. وقتها لم يكن قد مر زمن طويل على كفي عن التفكير في نفسي كشخص حقيقي، وتركي لذلك الشيء ينوب عني في عالم الأخرين، وهي لم تعد تنظر في عيني مباشرة منذ تلك اللحظة، الى أن ظهرت "صالحة" في حياتنا. وبعد ذلك بأيام جاءت تلك المكالمة الغامضة ..."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 30 يونيو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

بدأ الأمر على غير توقع مني ...

" ... بدأ الأمر على غير توقع مني. وقتها ضغطت أمي على يدي بقوة، وهي تنظر اليها، كما لو كانت تحدثها بعينيها، فانبعث منها صوت لا يتجاوز حد الهمس، ومع ذلك سمعته جيدا. و كان آليا ومترعا بالانفعال: "لقد القى بي من القمة". وعندما نظرت الى عينيها كان ملئهما الرعب، بينما فاضت عينا امي بالدموع وهي تهز راسها كانما لتشجعها لكي تعبر حدودا داخلية في قلب كيانها، فاضافت وعيناها المضطربتان تقلبان المكان بتمعن كمن يبحث عن شيء ما في امتداد ضبابي: "لقد القى بي من الأعالي، كما هدد!" . ولم يكن من الممكن تجاهل ما قالته، رغم أنها لم تقل أي شيء بعده، وشعرت كما لو أن الكلمات قد نزت من اعماقها تحت ضغط هائل، ثم نفذت، بعد أن أمرتها قوة قاهرة بالتزام الصمت. ورغم أن الكلمات بدت لي كما لو تقافزت خارجة من فمها بلا ارادة منها ، فانها كانت مجهدة بعد ذلك، وبالنسبة لي فقد كان ما سمعته كافيا لوحده و كان مفعما بالأسرار و الاحتمالات... "


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 30 يونيو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 


من أحد هذه الأزقة، التي تستبيحه ليلا أشباح ...

الزقاق في درنة . تصوير الفنان شحات أشليمبو
       ... من أحد هذه الأزقة، الذي تستبيحه ليلا -كما يشاع - أشباح مخيفة لفرسان صارمين، يمتطون سروج خيل هائجة تدك أجسادا بشرية مشوهة ناقصة، و تتلصص عبر نوافذه ، نهارا، عيون حذرة مضطربة، و تختبئ خلف مصاريع أبوابه نفوس وجلة مرتبكة تبحث بلا كلل في نصوص عتيقة عما يعينها على فهم واقع لم يعد يمكن تعقله، و حيث ترتجف يد السيدة القابضة على "تفسير الأحلام"، وهي تراقب - بوجل - طفلها القادم من طرف الزقاق، حيث توقفت على غير العادة، سيارة معتمة مريبة، ... من هذا الزقاق الذي يتقيأ اليوم، صرخات اليأس والغضب المتراكمة كجوقة أرامل تندب ساعات زمن ضائع، لم يكن شبحا ولامزحة… من هذا الزقاق ، هذا الزقاق بعينه، قفز ذات يوم الى عالمي الصغير الرجل الذي أسميته "لماذا الوردة".


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 30 يونيو 2015

______________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

لقد حزنا معا لأننا لم نكن في وداعه ...

"... لقد حزنا معا لأننا لم نكن في وداعه عندما عبر السماء مع الريح، لنكتشف بعدها أن الموتى الذين لا يموتون يتعلقون بحناجرنا الى الأبد.. كنت احسه يصرخ بي "لماذا لم تفعل شيئا؟"، و رددت صدى سؤاله في نفسي الآف المرات. من ناحية كنت الوحيد الباقي لأمي. ومن الناحية الأخرى، كانت هناك عشرات الأمور الأخرى المختلطة التي لا تسمح باتخاذ قرار مناسب. لقد تعلمت أن العيش في هذا العالم ليس سهلا، الا اذا اعتاد المرء أن يمارس فيه نوعا من الغيبوبة، ومهما اعتقد المرء بأنه أصبح قادرا على انقاذ روحه من وحله، سيجد نفسه يوما في قلب المستنقع. وهذا ما حدث لي بالضبط، فبينما وقفت عند ضفة البحيرة الأمنة، تركت أناي الآخر يغوص في الوحل مع التيار... "
عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 30 يونيو 2015


______________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher

حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 


تذكرتها عندما كانت واقفة ...

      " ... تذكرتها عندما كانت واقفة هناك تكاد تسقط من الاعياء، ملبدة الشعر و مهيبة. وقتها بدت وجنتا أمي مبللتين كأن الطل قد قبلهما، و قالت شيئا عندما حملناه و شفتاها ترتعشان، كأنما كانت تناديه. غص المكان بالأصداء، لكنه لم يسمع، ومضينا به الى حيث عليه أن يمضي. حينها تلوى وجه أمي، و مدت ذراعيها فبدت كأنما أرادت التقاط نثار زمن نفخته الريح. وطارد نحيبها سمعنا من بين ضجيج الأصوات، وكان يلح أشد من الواقع نفسه، فأحسست بأن حياتها كلها قد تقلصت و تركزت في ذاك النشيج...."

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 29 يونيو 2015


______________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher

حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر