بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 نوفمبر 2015

حدث ذات يوم في سوق الظلام ...

       لا أحد يدري على وجه اليقين من أين أتى هذا الرجل، الذي تعود أن يظهر في السوق بعد صلاة المغرب، وبقضي وقته رائحا غاديا بين الدكاكين حتى موعد صلاة العشاء، ملتفتا خلفه بحذر من وقت لآخر كما لو كان يريد التيقن بأن لا أحد يتبعه، و شاغلا وقته بالتحدث مع من يحاورونه من أصحاب المحلات وأولادهم بجمل فخمة متحذلقة و أحيانا غير مترابطة أو ساخرة ملغزة كنوع من تمضية الوقت، وعارضا على بعضهم رسوماته الأخيرة.

        و يدهشني، رغم مرور كل هذه السنوات، أني لازلت أتذكر بدقة مساء ذلك اليوم ، الذي شاهدت فيه "لماذا الوردة" لأول مرة. وقتها كنت جالسا كعادتي أمام دكاننا، مراقبا من يلفتون انتباهي من العابرين، عندما توقف لبرهة قبالتي، وتفحصني بنظرة ساخرة . ثم أدار وجهه باتجاه والدي الذي التفت ناحيته و اقترب مني بدون تردد ، حتى أني أجفلت قليلا، غير أنه لم يعبأ بذلك بل ازداد اقترابا مادا ورقة في يده باتجاهي.

- (جميلة ...آترى انها جميلة ... الوردة)
- (نعم .. انها وردة بديعة حقا) ، أجاب والدي بدلا مني ... ( هل أنت من رسمها؟)
- (أنا رسمتها ، هل أعجبتك؟ .... اذا أعطني عشرة قروش ، أريد أن أشتري تبغا)
- (سأعطيك القروش اذا أخبرتني لمن رسمت هذه الوردة)  قال والدي وقد بدت في عينيه نظرة متهكمة، كمن يمازح طفلا صغيرا.

        كان الغريب عادي الملامح، غير مرتب الملابس، يرتدي سروالا قديما ويرتفع قميصه الغير مكوي من احدى جهتيه مما جعله يبدوا غير متناسقا من ناحيته السفلية، كما كان يلبس نعلا من البلاستيك الرخيص. وبدا الرجل الذي قد استوقفت مروره في وسط السوق، شخصا غير مألوفا لي ولا لأبي ، مما دل على أنه ليس من المدينة أو ضواحيها، وان كانت لهجته ليست مختلفة كثيرا. و أذكر أني كنت قد سمعت مرة أبي يقدر عمره بأواخر العشرينات.

- (أعطني العشرة قروش أولا) قال الغريب.

         وهنا أخرج والدي النقود من جيبه ، ولكن قبل أن يلتقطها الرجل من راحة يده أغلق أبي يده بسرعة.
- (اذا لم تكن تريد ان تخبرني لمن رسمت هذه الوردة ، أخبرني على الأقل من أنت ولمن من العرب؟)
- (أنا لمن ؟ ) ضحك "لماذا الوردة ،  ثم تابع كلامه (لمن؟ ليس لمن ، بل لماذا ؟ ... لكن الوردة بدون لماذا ، لكنها ليست بدون لأن)

- (طيب لماذا ؟) سأل والدي.

- (الوردة بدون لماذا،
تتفتح لانها تتفتح،
و لاتسأل ان كان ثمة من يراها).

        هكذا أجاب لماذا الوردة، ثم انحنى ومد يديه المفتوحتين وذراعيه باتجاه الارض كجناحين. كما لو كان يحيي جمهورا غفيرا من المعجبين المبهورين، حتى أني أخذت أضحك بخجل، من طرافة المشهد، وأنا أحاول أن أخفي ضحكتي بيدي الصغيرتين.

- (ليس ثمة من يراها) صاح مبتهجا، و قد احمرت وجنتاه من السرور. (أليس هذا رائعا؟ بدون الرؤية تكون كل الحواس الأخرى عمياء. و أن لايراها أحد يعني أنها ستموت، لكن موت الوردة على كأبته يبدو فاتنا ومغويا كتفتحها)- (جميل، أنت مثقف أيضا)علق والدي على كلامه بلهجة مازحة.
- (انه هو الذي قالها وليس أنا... حسنا ، لا تعطلني ... أريد تبغا ... هيا ، هيا ... أعطني القـ قـ قـ روووش).

       في تلك اللحظة، انتبهت الى تغير لون عيني الرجل الى الأبيض بالكامل دفعة واحدة ، مما أفزعني ، ثم أخذ يهتز بقوة ، و أصدر صوت تنفس مخنوق، ثم سقط وهو ينتفض، فاسرع اليه والدي وأصحاب المحلات الملاصقة. أما أنا فقد أصابني الذعر فتسللت الى داخل محلنا على عجل، وجلست على ركبتي خلف الفترينة الصغيرة، وبعد أن خف اضطرابي، أخذت أتلصص من بين المعروضات على "لماذا الوردة" الذي كان يتقافز بين أيدي الرجال المحاولين تثبيته على الأرض، وسمعت صراخ جارنا وهو يصيح (أعطوني "مفتاحا كبيرا ، أعطوني "مفتاحا كبيرا)، وعند ذلك لم أعد أرغب في المتابعة ، فأدرت رأسي باتجاه قلب الدكان، و وضعت يدي على اذني وأغمضت عيني.

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  2  نوفمبر 2015
____________________________________________

Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق