![]() |
القوس المنقوش بنبات السلفيوم عند المدخل الجنوبي لسوق الظلام في درنة |
والأمر اللافت، أن أحدا لم يكن يعرف سر نكهة هذا الشاي الرائعة الغامضة، التي استعصت على التقليد، وهو الموضوع الذي كثيرا ما تجادل حوله الزبائن، وهم يقضون السويعات البطيئة الهادئة التي تعودها ساكنوا المدينة في تلك الايام. وكان الجدل كثيرا ما يتأزم حتى يصل الى حد العراك، عندما يكون طرفاه من الشباب العنيدين المشاكسين. أما صاحب السر نفسه فلم يكن يطيق التحدث عنه اطلاقا، بل ويعد ذلك تطاولا عليه، ناهيك عن طبعه المحب للصمت، واختصار الحديث. والحقيقة، أني أميل الآن الى الاعتقاد، بانه ربما لم تكن لذلك الشاي، رغم روعته، تلك الهالة لولا تلك المجادلات المتكررة، و شخصية الحاج، بملابسه المميزة، و قسماته الابنوسية الصارمة ونظراته المتراقصة المبهمة. هذا بالاضافة الى كلماته السريعة المتداخلة، والحكايات الشائعة في ذلك الحين حول روتين حياته وتصوفه، والتي كانت كلها تشكل مع رائحة "النعناع الدرناوي" الفواحة الممتزجة برائحة الشاي الخافتة الخجولة، مزيجا عجيبا متناغما ومغويا.
***
في تلك اللحظة ، يعرف كل أرباب المحلات الملاصقة للمقهى، الجالسين أمام دكاكينهم ، أنه بعد أن تفوح رائحة الفحم المشتعل و يخرج الفتى ليقف كالحارس الأمين أمام الباب المغلق، يكون الوقت قد أزف ليتفرغ الحاج، لخلط وصفته السرية، التي لن تلبث أن تعلن عن نفسها عبر شقوق الباب الموصد . بعدها يفتح الحاج باب مقهاه ويجهزه بحركات سريعة تبدو غير متكلفة، ويبدأ في توزيع الشاي على الزبائن، بوجه قليل التعابير، كقناع أفريقي عتيق، يخفي وراءه عالما مجهولا غامضا من الأحاسيس والأفكار. وفي مثل تلك اللحظات، كان يخال للناظر أن الحاج يقوم بكل هذه الحركات بانتباه وهدوء، كأنه وحيد في هذا العالم.
غير أنه في صباح ذلك اليوم من تلك السنة، كان "الحاج ابريك"، على غير عادته متوترا في سكناته وحركاته. ولم يكن هذا بسبب قلق حول موراده المالية، فالمقهي الذي افتتحه منذ أيام الاحتلال يعمل جيدا، والزبائن القدامى أدمنوا شاهيه، وكل يوم يأتي غرباء عابرين للمقهى. أما الحقيقة، فان ما أثار زوبعة في نفسه، هو الخبر الذي جاء من يهمس به في اذنه في الليلة الماضية، حول انضمام ابنه الى جماعة "عيازو".
عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 19 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق