بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 19 يوليو 2015

المقهى ...

القوس المنقوش بنبات السلفيوم
عند المدخل الجنوبي لسوق الظلام في درنة
        الحق أنه ما كان يمكن للغريب العابر في ذلك الزمان، الا أن يتساءل عن عشق تجار سوق الظلام لشاي "الحاج ابريك" ، وغرامهم به. فلسنين طويلة، كان شرب هذا الشاي، الذي يقدمه الحاج بنفسه، في أكواب زجاجية، مزينة بعدة أوراق نعناع خضراء طازجة على صينية  نحاسية عتيقة، أحد الطقوس اليومية التي تعودها أصحاب المحلات، عندما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث مع رفاقهم، وهم جالسين، عند عتبات محلاتهم.

      والأمر اللافت، أن أحدا لم يكن يعرف سر نكهة هذا الشاي الرائعة الغامضة، التي استعصت على التقليد، وهو الموضوع الذي كثيرا ما تجادل حوله الزبائن، وهم يقضون السويعات البطيئة الهادئة التي تعودها ساكنوا المدينة في تلك الايام. وكان الجدل كثيرا ما يتأزم حتى يصل الى حد العراك، عندما يكون طرفاه من الشباب العنيدين المشاكسين. أما صاحب السر نفسه فلم يكن يطيق التحدث عنه اطلاقا، بل ويعد ذلك تطاولا عليه، ناهيك عن طبعه المحب للصمت، واختصار الحديث. والحقيقة، أني أميل الآن الى الاعتقاد، بانه ربما لم تكن لذلك الشاي، رغم روعته، تلك الهالة لولا تلك المجادلات المتكررة، و شخصية الحاج، بملابسه المميزة، و قسماته الابنوسية الصارمة ونظراته المتراقصة المبهمة. هذا بالاضافة الى كلماته السريعة المتداخلة، والحكايات الشائعة في ذلك الحين حول روتين حياته وتصوفه، والتي كانت كلها تشكل مع رائحة "النعناع الدرناوي" الفواحة الممتزجة برائحة الشاي الخافتة الخجولة، مزيجا عجيبا متناغما ومغويا.

***

       وكانت الطقوس اليومية للحاج تبتدي منذ اللحظة التي يغلق فيها باب بيته بهزتين قويتين، وتلك الأعمال والتفاصيل التي تتكرر بحذافيرها صيفا و شتاء: في الصباح الباكر، يحث الخطى بحذائه القماشي الخفيف البني ، يتبعه أحد ابناءه حاملا صرة غامقة محكمة الاغلاق، وكالرياضي الرشيق يعبر شارع المغار الغربي متدثرا بمعطفه الطويل، منحدرا باتجاه بقالة بوعصبانة،  بخطوات قصيرة عجلى كزوبعة، بينما يتأرجح ظله الرفيع الباهت أمامه كالبندول. بعدها لا يلبث أن ينعطف باتجاه مسجد "بوغرارة" بحركة حادة، محييا البعض بصوت منخفض وبكلمات مقتضبة كالهمهمات، ضاغطا بأصابعه النحيلة أثناء هذا كله، على فتحة حقيبة السعف المنتفخة بقوة، حتى لا تعلن عما في جوفها من أسرار، بينما تثقبها نظرات الفضوليين. وفي النهاية يصل الى باب مقهاه ، فيفتحه وهو يلقي نظرة خاطفة الى الجهتين، ويدخل هو وابنه ويقفلان الباب خلفهما.
        في تلك اللحظة ، يعرف كل أرباب المحلات الملاصقة للمقهى، الجالسين أمام دكاكينهم ، أنه بعد أن تفوح رائحة الفحم المشتعل و يخرج الفتى ليقف كالحارس الأمين أمام الباب المغلق، يكون الوقت قد أزف ليتفرغ الحاج، لخلط وصفته السرية، التي لن تلبث أن تعلن عن نفسها عبر شقوق الباب الموصد . بعدها يفتح الحاج باب مقهاه ويجهزه بحركات سريعة تبدو غير متكلفة، ويبدأ في توزيع الشاي على الزبائن، بوجه قليل التعابير، كقناع أفريقي عتيق، يخفي وراءه عالما مجهولا غامضا من الأحاسيس والأفكار. وفي مثل تلك اللحظات، كان يخال للناظر أن الحاج يقوم بكل هذه الحركات بانتباه وهدوء، كأنه وحيد في هذا العالم.
       غير أنه في صباح ذلك اليوم من تلك السنة، كان "الحاج ابريك"، على غير عادته متوترا في سكناته وحركاته. ولم يكن هذا بسبب قلق حول موراده المالية، فالمقهي الذي افتتحه منذ أيام الاحتلال يعمل جيدا، والزبائن القدامى أدمنوا شاهيه، وكل يوم يأتي غرباء عابرين للمقهى. أما الحقيقة، فان ما أثار زوبعة في نفسه، هو الخبر الذي جاء من يهمس به في اذنه في الليلة الماضية، حول انضمام ابنه الى جماعة "عيازو".

عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ 19 يوليو 2015
______________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق