بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 أغسطس 2015

زقاق الدرقاوية

        " ... عدت أدراجي ومررت بداخل الزقاق. وأشعرني النظر اليه مثلما هو الحال مع كل الأزقة التي تتمدد حول السوق ،بأني في مواجهة التاريخ. الماضي كان ممدودا أمامي و خلفي وفي كل مكان، و كان يعلن عن نفسه كراية فوق الاحجار التي نقشها الأندلسيون بأظافرهم و عرقهم خلال العقد الأول من انشائهم لهذه المدينة قبل أكثر من أربعة قرون، دون أن يدري أي منهم شيئا عن الماضي المظلم الذي تسبب في خراب هذه المدينة وتركها أطلالا لقرون من الزمان قبل أن تطا أقدامهم ثراها. (لابد أنه كان زمنا مرعبا) تذكرت تعليق الاستاذ "رامي" ، عندما كان يخبرني بعضا من تاريخ المدينة بينما كنا في السيارة ، (نعم لا بد أن شيئا عظيما قد حدث ولكن لا أحد يدري ماهو) ، قال وهو يتأمل البحر الذي ارتسم على زجاج السيارة. وفجاءة اصدمت بوجهي هبة ريح رقيقة فانتشلتني لبرهة من شريط ألذكريات، التي كان من الممكن أن لا أعيشها لولا قضية" صالحة". كانت رائحة الزقاق رطبة مشحونة طوال الوقت ببعض من عبق البخور، وكان خاليا من البشر عندما دخلت الى المكان الذي بدا كما لو أن الزمن الحديث قد أدار له ظهره. (لكن هل تسلل الرعب الى قلوبهم عندما جالوا للمرة الأولى بين الأطلال، التي مر بها أجدادهم الفاتحين منذ قرون وأي أوهام ورؤى مظلمة تعرت أمامهم ورائحة البحر لم تزل تتسرب من ثيابهم)، تذكرت هذه العبارة التي قالها الأستاذ "رامي" بلهجة مفخمة، وهو يتفحصني بنظرته الهيتشكوكية التي تعودت عليها عندما يتحدث عن الرعب. الزقاق كان مسدودا بباب مقوس أندلسي الطراز في نهايته من الجهة اليمنى، وكان الباب الوحيد في الزقاق الذي لم يكن مغلقا بالكامل، فاقتربت منه، ولكن عندما كنت وضع يسمح لي بالقاء نظرة الى الداخل، سمعت مواء حادا أتى من شجرة التين التي كانت أغصانها تطل من فوق الباب، وتتسلل بين فجوات الجدار الخرب من الأعلى، وسمعت صوت سيدة تقترب من الباب، فقفلت راجعا على عجل، بينما كان صوت الأستاذ "رامي" ينبعث من زوايا ذكرياتي ( أي قرطاس ملعون نقل اللعنة في حروفه الى هذه المدينة، وهل نبش الصوفيون الذين تواردوا اليها كالذباب كل الأحجار والشقوق بحثا عن القرطاس المسحور أم تلبستهم لعنة الكلمات) قال ذلك وهو يقهقه بصوت عالي عند دخولنا الي المدينة، ثم تابع بصوت من خطرت له فكرة غير متوقعة (حكومة العالم الخفية،...اللعنة، كيف لم يخطر ذلك ببالي ) ، فأوقفت السيارة فجاءة و أنا أنظر اليه متعجبا كما لو كنت أتفحص مخبولا. عندها قال (أستمر، أنا أمزح بالطبع).

         لم يكن بالزقاق الا مجموعة من البيوت الصغيرة من دور واحد ما عدا بيتان كانا من دورين أحداهما في داخل الزقاق والأخر قرب نهايته لجهة السوق،وكانت المسافات الفاصلة بين الأبواب فارغة الا من بعض النوافذ الصغيرة الموصدة هنا وهناك، وبدت دون أية زخارف أو تفاصيل بارزة. الا ما يخبر عن الطابع الأندلسي. أما الجدران فكانت باهتة ولم ترى طلاء جديدا منذ فترة طويلة. القيت نظرة عابرة بداخل الزقاق تجاه الأبواب المقفلة، و لحسن الحظ لم أتقابل مع أي من الساكنين. وفي النهاية وقفت في مدخل الزقاق ملقيا نظرة أخيرة عليه. وفجاءة سمعت صوت باب يفتح، فتحركت بحذر الى زاوية الزقاق الأقرب الي سوق الخضار، مما يسمح لي بأن لا أكون مرئيا بسهولة لمن يخرج ، وركزت بصري ناحية الصوت، كما لو أن شبحا سيبرز منه، وكنت أمل أن يكون "المريد" ولكن لم يخرج أحدـ وعندما هممت بدخول الزقاق للاقتراب بحذر من الجهة التي صدرت عنها الضجة، سمعت فجاءة صرير نافذة تفتح من الجهة العلوية للمبني الواقع في مدخل الزقاق من اليسار ،وأطل منها للتو وجه شابة نظرت باتجاه مدخل المبنى في الأسفل ثم الى مدخل الزقاق، ولم يكن بامكانها أن تراني بسهولة من زاويتها. كان راس الفتاة عاريا و وجهها جميلا و شاحبا يشوبه بعضا من الحزن، مثل وجوه اللاتي قضين أغلب شبابهن في عتمة الجدران الرطبة، التي تفقد النساء ذلك السحر بالحياة والحيوية. و الحقيقة أنني لم أنتبه لطول الوقت الذي تفرست في وجهها، بأحاسيس متناقضة فقد ذكرني شحوبها و مسحة الكدر الغامضة التي تلفها بـصالحة، و لدقائق شعرت بأني لم أكن قادرا أن أعطي ظهري لهذا الوجه، وعندما تحركت من مكاني قليلا التقت عينانا، وشعرت في نظرتها التي خيمت عليها هالة حزينة، نظرة حيوان بري قبض عليه بعد صراع طويل، حينها باغتني صوت مألوف من خلفي: ( انه زقاق الدرقاوية)، وعندما التفت متفاجئا، وجدت "شيخ الطريقة" بجسمه المنحني النحيف وعيناه اللتان تشعان بنور باهت يبتسم و هو يربت على كتفي بهدوء (أرى انك مهتم بمعالم مدينتنا. هذا هو زقاق الدرقاوية، وهو في اسمه ينتسب الى الطريقة الدرقاوية التي أسسها "سيدي العربي الدرقاوي الذي ولد في المغرب قبل أكثر من قرنين) ، ... "


عن مخطوط رواية "الوردة بدون لماذا" . تأليف أحمد عبد السلام بن طاهر
نشرت على صفحتي على الفيس بوك بتاريخ  21 أغسطس 2015
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
حقوق النشر محفوظة © 2015 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق