" ... ، ذات مرة، حكى أحدهم أن "عيازو" قد وعي العالم بضربات رأسه، وقد أعجبتني عبارته هذه حتى أني خربشتها أنذاك في كراستي. وعندما كبرت عرفت أن هذا المتثاقف قد انتزع هذه العبارة من فم "هيغل" الذي قال أن "نابليون وعي العالم على ظهر جواد". وقد يكون في الأمر، بعضا من السخرية - وقد يقول البعض حتى انها مهزلة - أن يقارن بين "عيازو" و الكورسيكي الذي حاول وضع أوربا في سروال واحد، ففي الحقيقة لم يكن يتداول آنذاك من أخباره بين شباب المدينة، الا ما يفيد بأن اهتماماته الاصيلة لم تتجاوز احتقار قوانين وقيم النفاق والقشور الاجتماعية الفوقية التي تغطيه ، كما كان يحب ان يسميها، و التي ربما لم تتجسد في فكرتغيير أو ثورة بمفهوم تلك الأيام الا في وقت لاحق نسبيا.
 |
منارة بوعزة في درنة كما رسمها جندي ايطالي سنة 1912 |
ورغم كل الثغرات والمبالغات في قصة "عيازو" ، فأني أعرف بحق، أنه بعد أن القى الجنرال القصير خطابه الشهير في رجاله منتصبا تحت راس أبو الهول المدكوك الأنف، هاتفا بهم: " أيها الجنود، ان أربعين قرنا من الزمان ترنو بأنظارها اليكم" ، وقف - بعد ذلك بحوالي القرنين- عيازو" الذي لم يكن يفوقه طولا أمام جماعته، تحت سماء زرقاء ربيعية صافية، بقميص أبيض مفتوح و بنطال جينز بالي و ضيق يتعلق بخاصرته النحيلة بلا حزام، على ربوة واطئة بجانب منارة "سيدي بوعزة" التي أطلق عليها اسم "منارة المعارك" ليلقي كلمته التي لا زلت أتذكرها حتى يومنا هذا. والحقيقة أني لازلت أستغرب عبارات "عيازو" ،التي لم أنساها ابدا، والتي أوضحت لي بعد مرور السنوات، أنه كان هناك في تجويف ذلك الراس المدبب القاسي البارع في تسديد الضربات، كمية خطرة من المادة الرمادية التي تم ترويضها في غفلة من الزمن لتحمل هم الصراع المنتظر، و تنتقي مثل تلك العبارات التي لاتنسی، التي تبدو لي كغريق لفظه البحر بعد عناء دام قرون. و الحقيقة أني ذكرت "لم أنساها أبدا" رغم أن لدي بعض الشكوك المبررة في دقة ذاكرتي، وأحتمال كوني قد وضعت بعض الكلمات على لسانه دون وعى مني. وأجدني أتساءل أحيانا ان كان "عيازو" قد قال ذلك كله فعلا، أم أن غبار السنين قد خلط خطى الكلمات، فكلنا يعرف هشاشة الذاكرة وعدم امكان التيقن من حقيقة ما تفيض به."
____________________________________________
Copyright© 2015 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
الرسم لمنارة بوعزة سنة 1912 ، رسمها بالالوان المائية جندي ايطالي.